هل الشرق الأوسط بات يواجه «لعبة أمم» جديدة؟!

TT

حتى الآن، ورغم مرور نحو أسبوع على تنحي حسني مبارك عن موقعه الرئاسي لحساب المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية برئاسة المشير حسين طنطاوي، فإنه لم يفهم كل هذا الحماس الذي أبداه الرئيس الأميركي باراك أوباما وأبدته الإدارة الأميركية لإقصاء الرئيس المصري الذي غدا سابقا.. فهل أن هناك مسألة شخصية أم أن هناك موقفا غير معروف للرجل الذي بقي صديقا وحليفا للولايات المتحدة لستة وثلاثين عاما، منها ستة أعوام كنائب للرئيس الأسبق أنور السادات، ضد توجيهات وخطط الأميركيين في هذه المنطقة التي لا يمكن الدخول إليها إلا عبر البوابة المصرية..؟!

لقد كان بإمكان الأميركيين - ولو أنه ليس هناك ما هو غير معروف دفعهم إلى كل هذا التعنت والإصرار على التعجيل بالحسم - أن يقبلوا بآخر عرض تقدم به حسني مبارك في آخر إطلالة له على الشعب المصري وعلى العالم، وأن يتركوا الأمور تأخذ مجراها إلى أن يتم الانتقال السلمي للسلطة خلال الفترة الانتقالية حتى سبتمبر (أيلول) المقبل، وهي فترة محدودة وقصيرة سيكون خلالها الرئيس السابق بلا قدرة ولا سلطة فعلية.

إنه لا خوف، بمعنى الاستبداد والتسلط، من أن يتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسؤولية المرحلة الانتقالية، التي غدت محددة بستة شهور أو إلى حين إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، فالجيش المصري بقي، ليس منذ حركة الضباط الأحرار بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر في عام 1952 بل منذ ثورة عرابي باشا، يشكل ضمير الشعب المصري وبقي هو المرجعية لهذا الشعب عندما تدْلهمّ الأمور وتصبح مصر في خطر وتواجه تحديا جديا طارئا لكن الخوف كل الخوف من أن تلعب التدخلات الخارجية لعبتها في هذا البلد المستهدف دائما وأبدا، وأن تتجاوب بعض القوى الداخلية مع هذه التدخلات استجابة لـ«أجندتها» الخاصة ولتطلعاتها القديمة.

هناك كثيرون حاولوا ركوب حركة شباب مصر، التي يحلو للبعض إطلاق اسم «ثورة 25 يناير» عليها، وهناك من جاء على جناح السرعة من أربع رياح الأرض ومن الولايات المتحدة على نحو خاص كي يجد له موقعا في مركب هذه «الثورة» وهناك، وهذا هو الأخطر، من حاول اختطاف «ميدان التحرير» وإلباسه عمامة الولي الفقيه علي خامنئي وعباءة الثورة الإيرانية والمعروف أن الإخوان المسلمين مصنفون على «فسطاط الممانعة» الذي تقوده إيران، وأنهم منحازون لزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله حتى على صعيد الأزمة اللبنانية الداخلية المتفجرة على خلفية المواقف المتعارضة والمتناقضة بالنسبة للمحكمة الدولية التي تشكلت بقرار من مجلس الأمن الدولي للتحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في فبراير (شباط) عام 2005.

غير معروفة على وجه الدقة والتحديد الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تقف ذلك الموقف المتهور الذي اتسم بالإرباك والارتباك إزاء ما جرى في مصر وتستقطب أوروبا كلها لتقف هذا الموقف نفسه، وكل هذا وهي تصمت صمت أهل القبور تجاه أنظمة عربية انقلابية مستمرة في اضطهاد وقمع شعوبها منذ أكثر من أربعين عاما ومستمرة في تدخلها السافر في شؤون العديد من دول المنطقة وكل هذا أيضا وهي لم تتخذ موقفا جديا لمساندة «الثورة الخضراء» في إيران التي تسحق يوميا بأحذية حراس الثورة وتواجه بالحديد والنار وفقا لتوجيهات المرشد على خامنئي!!

في سبعينات القرن الماضي راج كتاب هام من إعداد مايلز كوبلاند، الذي كان أحد كبار مسؤولي الاستخبارات المركزية الأميركية الـ(سي آي إيه) في الشرق الأوسط، اسمه «لعبة الأمم»، تحدث عن كيف أن هذه اللعبة بدأت بانسحاب البريطانيين من اليونان وتركيا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة حيث اندفعت الولايات المتحدة لملء الفراغ الناتج عن ذلك الانسحاب الذي أصبح نهائيا من الشرق الأوسط بعد حرب السويس الشهيرة في عام 1956 التي كان لموقف الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور الدور الحاسم في إفشال العدوان الثلاثي، البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي، على مصر وبروز الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كقائد قومي بقيت تراهن عليه الجماهير العربية حتى هزيمة يونيو (حزيران) التي كشفت الغطاء عن الأنظمة التي كانت تعتبر ثورية وأكثر وطنية من الأنظمة الأخرى.

وحسب مايلز كوبلاند هذا فإن «لعبة الأمم» هذه قد تجلت في سلسة الانقلابات العسكرية التي بدأت في سورية بانقلاب حسني الزعيم عام 1949 الذي أتبع بانقلاب سامي الحناوي في العام نفسه ثم بانقلاب أديب الشيشكلي بعد ذلك ثم بالانقلابات التالية كلها، ومن بينها انقلاب حزب البعث في عام 1963 الذي فرخ انقلابين لاحقين، والتي، بالنسبة للعراق، بدأت بانقلاب عبد الكريم القاسم على النظام الملكي ثم انقلاب عبد السلام عارف ثم انقلاب حزب البعث الذي تعرض حكمه لسلسلة من التصفيات الداخلية إلى أن استقرت الأمور لصدام حسين بعد المذبحة التي نفذها ضد رفاقه في عام 1979.

وحتى بالنسبة لإطاحة الملك فاروق في عام 1952 فإن كوبلاند وضعها في دائرة لعبة الأمم هذه، كما ووضع في هذه الدائرة ذاتها العديد من الانقلابات العسكرية اللاحقة، وهنا فإنه يجب التأكيد على أن هذه الانقلابات كلها، ما جاء منها في البداية وما جاء منها في وقت متأخر، قد جرى استغلالها لترتيب أوضاع منطقة الشرق الأوسط من قبل الدول الكبرى المتنافسة على هذه المنطقة التي يشكل فيها الموضوع الإسرائيلي قطب الرحى بالنسبة لهذه الدول؛ وذلك بالطبع دون علم بعض الذين نفذوها وقاموا بها ودون أن يكون بعض هؤلاء متورطين عن سابق تصميم وإصرار في هذه اللعبة.

الآن هناك إحساس حقيقي بأن معادلة القطب الأوحد في العالم، الذي بقيت تشكله الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في بدايات تسعينات القرن الماضي، بدأت بالاهتزاز تحت ضغط الدول الصاعدة كالصين والبرازيل وروسيا الجديدة والاتحاد الأوروبي والهند أيضا؛ وهذا اقتضى أن تسارع أميركا إلى تجديد شباب الدول الموالية لها من خلال دعم الانتفاضات الشعبية في هذه الدول، إن بصورة مباشرة وإن بصورة غير مباشرة، وكل هذا تحت شعار «الفوضى الخلاقة» الذي رفعه جورج بوش (الابن) وبخاصة أنه ثبت بعد تجربة العراق وأفغانستان أن التغيير بجنازير الدبابات ليس مضمونا، بالإضافة إلى أنه مكلف من النواحي البشرية والاقتصادية.

وبالطبع، وهذه حقيقة لا جدال فيها، إن تسلم القوات المسلحة لمقاليد الأمور في مصر بعد أن كادت «ثورة الشباب» تتحول إلى فوضى غير خلاقة، يعزز المراهنة على أن هذه الدولة العربية التي هي مدخل الشرق الأوسط كله سوف تسد الطريق على «لعبة الأمم الجديدة» هذه، وأن استقرارها والتقاط أنفاسها بسرعة بعد هذا الزلزال الهائل سوف يكون عاملا فاعلا لإحباط مساعي إيران ومعها الحلفاء الأقربون للتسرب من خلال شقوق هذه الأوضاع المستجدة إلى بعض دول المنطقة.

وهنا، وهذا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار من قبل الوضع الجديد في مصر ومن قبل الدول العربية المعنية، فإن الخوف كل الخوف من أن تستقر «لعبة الأمم الجديدة» هذه على التلاقي بين الأميركيين والإيرانيين والإسرائيليين وتقاسم النفوذ في هذه المنطقة بين هذه الدول الثلاث التي رغم وجود اختلافات بينها فإنها تتفق على أن العرب بسبب خلافاتهم غير قادرين على التصدي لكل من يحاول ملء الفراغ الحالي في الشرق الأوسط، بل إن ما يشجع الطامعين الذين يحاولون ملء هذا الفراغ هو أن بعض الدول العربية ولأسباب كثيرة اختارت حضن إيران، وكانت منذ وقت مبكر قد ربطت نفسها بالعربة الإيرانية!!