الموجة الثانية لثورة مصر!

TT

دونما موجة ثانية، ستكون ثورة الشعب المصري في 25 يناير (كانون الثاني) 2011 «زي قلتها»، وذلك لأن النظام ما زال قائما، النظام «لابد في الدُرَه» كما نقول بالعامية المصرية، أي أن بقاياه ما زالت موجودة وله الدور الأساسي في تشكيل المستقبل من خلال وزارة تسيير الأعمال التي كلها من النظام القديم ولها تأثير كبير على الجيش في قراراته، هذا إضافة إلى ما تبقى من النظام من رجال أعمال ومنتفعين من النظام القديم الذين لهم دور كبير في محاولة الالتفاف على إنجازات الشعب ومحاولاتهم المستمرة لتفريغ الثورة من مضمونها، وهذا ليس جديدا على مصر. ففي يوليو (تموز) 1952 استطاع النسق الثاني من المنتفعين من النظام الملكي أن يبقوا في أماكنهم، وسيطر أبناؤهم على الوزارات المهمة، في وزارة الخارجية خصوصا، وبدت ثورة يوليو أشبه بذلك المطعم الدوار على برج القاهرة الذي لف لفة واحدة وتوقف إلى الأبد. ثورة يوليو لفت نصف لفة، ولم تغير إلا القشرة في الواقع المصري، إذ ظل أبناء الباشاوات والبكوات القدامى هم عصب نظام يوليو، وجاء معظم أبناء منظمة الشباب والطليعة من هذا النسق الثاني. هذا النسق ما زال موجودا بعد ثورة 25 يناير، بل إن الوزارة الحالية برمتها ما زالت من ذات الوجوه التي أطلت على الشعب المصري لسنين عدة، وجوه بعضها لم يأت بالكفاءة ولكنها أتت بنظام المكافأة، وكنت أتمنى أن يزيح الجيش هذه الوجوه؛ حتى لو كان اسم الحكومة «حكومة تسيير أعمال»، فأي واحد من الشارع يستطيع أن يسيّر أعمال الوزارة أحسن مائة مرة من امرأة حاصلة على شهادة ابتدائية وضعها النظام السابق كوزيرة لأنها قريبة أهل الحكم. عيب أن يذلنا الجيش المصري العظيم ببقاء مثل هذه الوجوه ولستة شهور أخرى. عيب جدا، بل مقزز أيضا.

كنت جالسا في «ماريوت الزمالك» بعد استقالة حسني مبارك من منصب رئيس الجمهورية في مصر بيوم واحد، أي يوم 12 فبراير (شباط) 2011، ولاحظت في أكثر من «ترابيزة» أو طاولة إلى جواري، من الأمام ومن الخلف، أقارب وأنسباء أحد أبناء مبارك، يجلسون في طمأنينة رغم كل ما نشر عن تورط بعضهم في قضايا فساد، ومع ذلك هم مطمئنون، وهذا لا يعني سوى شيء واحد لا غير هو أن الثورة غيرت مبارك ولم تغير النظام؛ كما كنا ندعو في شعاراتنا في ميدان التحرير. «الشعب يريد إسقاط النظام»، ولكن النظام ما زال باقيا في مصر، ولم يصفر الحكم بعد ولم تعلن نتائج المباراة. واضح على وجوه أقارب مبارك في الفندق أن صفارة الحكم النهائية لم تطلق بعد، وأن احتمالية عودة أجزاء من النظام السابق واردة جدا.

الثورة في مصر لن تحقق مكتسباتها إلا بدستور جديد، وبرلمان جديد، وبنظام برلماني لا رئاسي، لأننا في مصر نريد أن يكون كل منا ريسا، حتى سائق التاكسي الأجرة «يزعل» قليلا إذا لم تقل له «يا ريس»، نحن في مجتمع شديد الحساسية وشديد الغرور أيضا، لذا وجب علينا تقليص صلاحيات الرئيس، أي رئيس، وننقل الموضوع برمته إلى النظام البرلماني. الوضع الحالي في مصر يمكن أن يستمر من خلال قدرة النسق الثاني على المناورة. الحرس القديم بعد 25 يناير أثبت أنه حرس محدود الرؤية وعقيم الأفكار، ينظر إلى المصريين باحتقار، فها هو رئيس الوزراء يقول إنه لم يجد أفضل من من عينهم في الوزارة في بلد فيه 85 مليون مواطن. انظر خارج الدائرة وستجد آلاف المصريين الأذكياء القادرين على إدارة البلد.

في عام 1993 كتبت مقالا في الـ«كريستيان ساينس مونوتور» الأميركية، تناولت فيه جمال مبارك، ومن يوم هذا المقال وأنا أعيش في جحيم صنعه كتبة النظام في مصر. كل يوم كان يطلع أحد المتطوعين لتشويه صورتي لأنني «تحدثت عن الرئيس وأبنائه»، تعقدت كل حياتي بعد مقال واحد، فقد سلط النظام من يشوه صورتي في صحافة كانت مسعورة ضد من يتلفظ ولو بكلمة واحدة عن حسني مبارك وعائلته. الآن، وبعد هذه الثورة أستطيع العودة إلى بلدي بسلام، ولكن حتى قيام الموجة الثانية من الثورة، ما زلت وغيري خائفين من أن تؤول البلد مرة أخرى للنظام القديم.