تأملات من وحي التجربة التونسية

TT

لم يعد من المهم اليوم التنقيب عن أسباب ودواعي اندلاع الثورة التي انطلقت شرارتها الأولى في تونس قبل أن تأخذ طريقها إلى مصر، مركز الثقل العربي بلا منازع، فقد غدت هذه الأمور في ذمة التاريخ، وبين يدي المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع لإجالة النظر فيها بشيء من الهدوء والروية، ولكن ما هو أكثر إلحاحا اليوم، هو تشخيص التحديات التي ستواجه التونسيين في مقبل أيامهم وكيف يتم التغلب عليها، ثم تقوية عوامل المناعة الذاتية في ظل العواصف التي تحيط بهم.

لقد بدأت بتدوين هذه التأملات، وأنا أطل على شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة التونسية، وليس من لندن أو الدوحة على النحو الذي تعودت لسنوات طوال، وذلك بعد غياب طويل وقسري عنها دام ما يزيد على العقدين من الزمن، ولعل هذا ما أتاح للمرء تحسس مشاعرهم بصورة مباشرة والاقتراب أكثر من مشاغلهم وهواجسهم العامة.

ما يشد انتباهك لأول وهلة وأنت تجالس الناس وتتحدث إليهم، ميلهم التلقائي إلى تخطي حاجزي الخوف والتكلف، ورغبتهم الجامحة في الحديث في شؤون السياسة والسياسيين، وفي مثل هذه الأجواء، غدا التظاهر والاحتجاج جزءا مكينا من الحياة اليومية للتونسيين، وكأن هناك صاعقا كهربائيا قد سرى فجأة في دواخلهم وحرك فيهم هذه الطاقة الثورية غير المسبوقة، على الرغم مما عرف عن التونسيين من هدوء ومسالمة. ولا غرو أن ترى التصميم الشديد على النزول إلى الشارع واستخدام ما هو متاح من أساليب الاحتجاج المدني حتى بعد رحيل بن علي من قصر قرطاج. فقد غدت كلمة «ديجاج» الفرنسية، التي تعني «ارحل»، بمثابة الكلمة السحرية التي تجري على ألسنة الجميع في كل حين ولحظة. وهي حالة تعكس خشية الناس الشديدة من الالتفاف على ثورتهم وإهدار المكاسب التي انتزعوها من بين أنياب نظام تسلطي غشيم قد حكمهم بالحديد والنار على امتداد 23 سنة متتالية. فعلا ثمة ما يمكن تسميته هنا بعقدة 7 نوفمبر، تخيم على وعي التونسيين ومخيلتهم، أي توجسهم من أن يتم التحايل عليهم مرة ثانية من خلال تقديم بعض التنازلات الجزئية وبيعهم بعض الوعود الكاذبة التي يتم لعقها لاحقا على نحو ما فعل الرئيس المخلوع بعد إزاحة سلفه بورقيبة سنة 1987.

لقد قيل الكثير عن أن هذه الثورة كانت تلقائية وتفتقد القيادة والتوجيه، وليس لها برنامج سياسي واضح. وهو حكم ليس خاطئا بإطلاق، لكنه قطعا يحتاج إلى شيء من التنسيب. صحيح أنه لم تكن هنالك قيادة مركزية ضابطة وموجهة لحركة الشارع، لكن هذا لا ينفي وجود قيادات ميدانية شابة ضاربة بجذورها في الأرض لعبت دور المحرك الرئيسي في التمرد على حكم بن علي، سواء في المناطق الداخلية التي انطلقت منها الأحداث أو في العاصمة والمدن الكبرى فيما بعد، وهي تتكون أساسا من العناصر النقابية الميدانية المنحدرة من المنظمة العمالية العريقة، الاتحاد العام التونسي للشغل، ومن نشطاء سياسيين محليين وطلاب جامعات. وهذا في حد ذاته كفيل بمراجعة المفهوم السائد للقيادة. ربما نحن اليوم إزاء تشكل معنى جديد للقيادة لم نعرفه من قبل، أفصحت عنه التجربة التونسية ومن بعدها المصرية، وهو مفهوم يقوم على الأداء الوظيفي الميداني، وعلى الامتداد الأفقي بدلا من القيادات التراتبية والمركزية على النحو التقليدي المعروف، وهذا تحول فرضته أدوات الاتصال والمعرفة الحديثة، أو ما بعد الحديثة التي أتاحت بسط المعلومة والمعرفة بين عامة الناس وخاصتهم، وما عادت حكرا على فئة حصرية محددة تسمى القيادة أو الطليعة.

كما من الصحيح أيضا أنه لم يتبلور برنامج سياسي واضح، خصوصا في الأيام الأولى لاندلاع الثورة في المدن الداخلية التونسية المحرومة، بيد أن ذلك لا يجب أن يحجب عنا حقيقة الترابط بين مقولتي الحرية والعدالة الاجتماعية في وعي ووجدان الشبيبة التونسية التي فجرت هذه الثورة، وهذا ما ينطبق أيضا على الشبيبة المصرية التي رابطت في ميدان التحرير والتي ينتمي أغلبها إلى الطبقات الوسطى وما فوق الوسطى.

على الرغم من بعض المحاذير التي صاحبت، وما زالت تصاحب ثورة التونسيين، ومن بعدهم المصريون، فإن ما يدعو إلى الاطمئنان هو أنهما لم تنزلقا باتجاه الهيجان أو العنف الصاخب الذي يطبع الثورات عادة. هنا في تونس ترى الناس وهم يستأنفون وتيرة حياتهم اليومية ومداومة أشغالهم وأعمالهم، جنبا إلى جنب مع حركة الاعتصامات والمظاهرات اليومية التي لا تهدأ، سواء في العاصمة أو في غيرها من المدن التونسية الأخرى، فقد رأيت بأم عيني كيف ينفتح حشد المتظاهرين أمام عربات المترو أو سيارات الإسعاف وغيرها، ثم يعود الناس للالتحام مجددا، كما رأيت كيف احتشد رجال الأمن أمام مقر وزارة الداخلية في العاصمة، الذين كانوا إلى وقت قريب لا يرعوون عن جلد ظهور الناس وتعقبهم، للتبرؤ من مساوئ عهد الرئيس المخلوع، والمطالبة بنقابة تدافع عن مصالحهم المهنية.

ما ترسخ في ذهني من هذه الزيارة السريعة، بعد غياب طويل، هو أن عموم التونسيين بنخبتهم وجمهورهم لديهم إحساس عميق بكونهم قد أنجزوا مهمة عظيمة وشاقة، بإزالة صخرة كبيرة كانت تجثم على صدورهم على امتداد 23 سنة متتالية تقريبا، لكنهم مع ذلك يضعون أيديهم على صدورهم خشية اختطاف الثورة من بين أيديهم لصالح قوى العهد الغارب.

بيد أنه إذا تجاوزنا تشخيص الوضع الراهن وما هو عاجل من الأمور لصالح ما ينتظر التونسيين من مهام مستقبلية فإنه يمكننا بشيء من الاختصار أن نجملها في الآتي:

أولا: تفكيك بنى التسلط السياسي التي أقام دعائمها نظام بورقيبة الأبوي منذ استقلال البلد عن الاستعمار الفرنسي سنة 1956، والتي زادها حكم بن علي الغارب تعقيدا وضخامة من خلال إمعانه في توسيع وتعقيد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ولعل هذا ما يعطي أولوية قصوى لإعادة بناء الأجهزة الأمنية وتقليص حجمها إلى الحد الذي يحتاجه بلد صغير مثل تونس لا يزيد عدد سكانه على عشرة ملايين ونصف المليون، ومن ذلك حل جهاز البوليس السياسي الشرس الذي استند إليه بن علي للفتك بخصومه وبث الرعب في المجتمع.

ثانيا: القطع مع العهد «القديم»، مؤسسات وثقافة ووجوها، بيد أنه يتوجب أن تكون هذه القطيعة هادئة وتراكمية وتتجنب الوقوع في مطبات الثورات عادة التي تولد مجنونة ومهووسة بفكرة البداية الكاملة والجدة المطلقة. يكمن التحدي هنا في الحفاظ على شيء من التوازن بين خطي الاستمرار والقطيعة، ومن ذلك الإقرار بأن هذه الثورة، فضلا عن كونها منجزا شعبيا عاما، فهي تتويج لميراث فكري وسياسي تواردت عليه نضالات ومطالب قوى سياسية وفكرية واجتماعية كثيرة من اليساريين والقوميين والليبراليين والنقابيين والإسلاميين، ثم فئات الشباب والقوى الجديدة الصاعدة، وليست ملكا لفئة معينة أو جماعة حصرية.. إن فكرة التدرج الهادئ ضرورية ومهمة للحفاظ على توازن الاجتماع السياسي وعدم الانزلاق في الهزات العامة التي تصاحب مولد الثورات عادة، شريطة أن يكون هذا الانتقال جادا وراسخا تحميه آليات ثابتة وواضحة وليس مجرد وعود في بطون الغيب، بحيث لا يتكرر خداع الحقبة السابقة التي قامت على المخاتلة والوعود الكاذبة. وهنا يهمنا أن نشير إلى أن مطلب الفصل بين الحزب والدولة وحل التجمع الدستوري الديمقراطي يظل أمرا مشروعا ولازما لفك الصلة بالعهد السابق، على أن تتاح لهذا الحزب فرصة إعادة بناء نفسه، إن أراد ذلك، على أسس جديدة بمعزل عن غنيمة الدولة التي تعيش عليها عقودا طويلة.

إن المحذور الأخطر الذي يجب ألا يقع فيه التونسيون وأقرانهم المصريون هو إطلاق العنان لغريزة الانتقام والتشفي، أي فكرة التطهير وما عساها تجلبه من كوارث على نحو ما رأيناه في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي.

ثالثا: الاتجاه نحو بناء ديمقراطية توافقية بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية، التي أسهمت على نحو أو آخر في إنجاح الثورة، وهذا يقتضي فيما يقتضيه إعادة بناء الإجماع العام حول أسس وأولويات المرحلة المقبلة بعيدا عن كل أشكال الاحتكار والاستثناء، بحيث تشعر جميع القوى السياسية الفاعلة بأن لها قدرا ونصيبا من السلطة وحق الكلمة في شؤون البلاد، مثلما يشعر الجميع أن لهم مصلحة في إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي المعطلة. لقد بينت تجربة الجزائر المجاورة كم هو خطير الاعتماد على صناديق الاقتراع وحدها من دون ضمان توازن في المصالح والمنافع بين مختلف الأطياف السياسية. وحتى أكون دقيقا هنا أقول: إنه ليس من الضروري أن ينال كل طرف نصيبه السياسي بحسب حجمه الشعبي على الأرض بل لا بد من مراعاة مبدأ التوازن؛ بحيث لا يكون هناك رابح بالكامل وخاسر بالكامل. فلا أحد يريد أن يستبدل بهيمنة الحزب الحاكم أي ضرب من ضروب الانفراد أو الهيمنة الحزبية الأخرى كيفما كان شكلها ولونها.

إن وجود خطوط تحالف سياسي وجبهوي عريض بين تيارات سياسية وفكرية مختلفة من شأنه أن يحقق هدفين متكاملين هنا، أولا: الابتعاد عن مربع الاستقطاب الآيديولوجي والثقافي الذي تدفع بعض المجموعات العقائدية على إحيائه من مراقده مجددا، من قبيل القول: إن هنالك صراعا بين العلمانيين والإسلاميين أو بين الحداثيين والرجعيين وما شابه ذلك من العناوين الأخرى المضللة التي عطلت الحياة السياسة التونسية لسنوات طويلة، وأتاحت للعهد السابق غرز مخالبه في الجميع بعد ذلك. إذا لم يكن هناك بد من وجود فرز سياسي فيجب أن يكون بين أنصار التغيير الجاد وبين أولئك الذين يعملون على إيقاف ساعة الزمن والتحايل على الثورة.

هذه ملاحظات سريعة أسوقها عن تجربة تونس الصغيرة قبل أن تكتمل الحلقة الأولى من الثورة المصرية بتنحي الرئيس حسني مبارك، ولعل فيها ما هو جدير بالنظر والاعتبار من طرف أهلنا في مصر الذين تسلموا اليوم مشعل التغيير، وهم الذين انتدبتهم أقدار التاريخ والجغرافيا ليكونوا دوما في الموقع الأهم والأثقل لقيادة القاطرة العربية المعطوبة.