أزمة الدولة في الوطن العربي.. الإدراكات والمعالجات

TT

كان مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت قد نظم ندوة قبل عشرة أيام على وقوع انتفاضة تونس بعنوان: «أزمة الدولة في الوطن العربي». وقد قيلت في بحوث الندوة أسباب كثيرة عن تراجع الاستقرار والنمو والأحزاب السياسية.. وحتى عن تراجع تيارات الإسلام السياسي. وقد حسبت كل هذه الأسباب أو العوامل على قضية تراجع درجات الشرعية التي كانت تحظى بها الأنظمة العربية. وما كان عنوان المؤتمر مصادفة، أي «أزمة الدولة» وليس مثلا «أزمة الأنظمة»، فقد اعتقد كثيرون - ومنهم بعض المشاركين في الندوة المذكورة - أن الإطار القطري للدولة الحديثة في الوطن العربي ما كان ملائما، لمناقضته للأسس القومية العربية. بينما اعتقد الإسلاميون أن الإطارين القومي والقطري معا ليسا ملائمين، لأنهما لا يقولان نظريا وعمليا بمبدأ الأمة، كما أنهما لا يقولان بالسعي لتجاوز القطرية والقومية معا!

والواقع أن انتفاضتي تونس ومصر، أسقطتا أدبيات كثيرة أجنبية وعربية. وأهم المقولات الأجنبية التي يجري الآن تجاوزها أن المشكلة الأساسية في النظام العربي القائم تكمن في الوعي التقليدي القديم والجديد للإسلام والإسلاميين، الذي يعادي الحداثة والدولة القومية العلمانية معا. وكانت الثورة الإسلامية في إيران، التي أفضت إلى قيام نظام إسلامي اتخذ «ولاية الفقيه» عنوانا له، دليلا دامغا، من وجهة النظر هذه، للوعي الإسلامي القديم والجديد، وفي مسألتي الدولة والحاضن الاجتماعي - الثقافي لها. إنما في السنوات الأخيرة أضاف هؤلاء الباحثون من أجانب وعرب إلى أسباب الأزمة عوامل فرعية (إضافة إلى الإسلام المفارق للحداثة)، من مثل: ضآلة الحداثة وقيمها ضمن الأنظمة القائمة، ومنها التداول على السلطة، والافتقار إلى المشاركة الشعبية، وحكم القانون، وهكذا، ففي انتفاضتي تونس ومصر جرى إسقاط المقولة التي تذهب إلى أن القيم الإسلامية (التقليدية التي لم يداخلها إصلاح يشبه الإصلاح البروتستانتي!) تقف حائلا دون إحلال الديمقراطية والتداول على السلطة ومشاركة الناس، ضمن الأمور الضرورية لبقاء الشرعية متحققة في النظام القائم. ويترتب على ذلك مقولة أخرى وقع ضحيتها ليبراليو العالم العربي وبعض يسارييه، وهي التي تذهب إلى أن تلك القيم الحديثة ما دخلت في وعي الناس في العالمين العربي والإسلامي بسبب أمرين: الوعي التقليدي (الإسلامي) للجمهور، وحزبيات الإسلام السياسي الأصولية. ومن هناك جاء الحديث الكثير عن «الاستثناء» العربي، وأحيانا الإسلامي فيما يتصل بالديمقراطية وقيمها. وهي مسائل خطيرة ما كان يجوز للمفكرين العرب الدخول فيها باستخفاف وسهولة. وقد استندت إليها إدارة الرئيس بوش في قولها بصراع الحضارات، وضرورات إصلاح الإسلام، والمناهج التربوية، مقدمة لإمكان مكافحة الأصولية المعششة في الوعي والتصرف ولدى الجمهور والأنظمة. والمقولة نفسها دخلت فيها الأنظمة الثورية العربية في الستينات عندما اعتنقت مقولة وممارسة «الطليعة الثورية» التي من حقها قيادة الجمهور والأنظمة نحو الأهداف السامية مثل مصارعة الاستعمار، ومصارعة التخلف، ومصارعة الطبقات الاجتماعية التقليدية الإقطاعية والرجعية! والرئيس السوري بشار الأسد الذي كان قد قال بهذه المقولة في مقابلة مع صحيفة «وول ستريت جورنال» عندما ذهب إلى أن الشعب غير مدرب على ممارسة الديمقراطية، ولا بد من التدرج، عاد بعد أسبوع للقول في مقابلة: إن الشعب العربي قادر على الإصلاح (وليس على الديمقراطية مثلا!)، دونما تدخل أجنبي. وعلى أي حال؛ فإن الأنظمة العسكرية والأمنية القائمة هي صاحبة مصلحة في كل المقولات التي تؤخر تدخل الناس لتولي إدارة شؤونهم بأنفسهم في انتخابات حرة. ونحن نعرف أن كل الأنظمة، وفي طليعتها الأنظمة في تونس وسورية ومصر قالت للغرب الأوروبي والأميركي: لا شيء من بعدنا غير الفوضى أو الإسلاميين! والحمد لله ما حصلت الفوضى لا في تونس ولا في مصر، كما أن الإسلاميين ما تحولوا إلى غول على الغرب وعلينا. فقد قال «الإخوان المسلمون» المصريون في بيان لهم عندما ذكر السيد خامنئي أن مصر ذاهبة نحو الحكم الإسلامي، إن الثورة في مصر هي ثورة الشعب المصري، وليست ثورة «الإخوان»! ولست أجد مبررا للخوف من الإسلاميين في كل مكان، ليس لأنهم تطوروا وتغيروا في أجيالهم الشابة على الأقل؛ بل لأن الأجيال الشابة كلها منخرطة في التغيير، وإذا حصل الإسلاميون في الانتخابات الحرة الأولى على جزء وازن في البرلمانات بسبب حسن تنظيمهم؛ ففي الانتخابات اللاحقة، ستتراجع حظوظهم إذا عادوا للتحزب والاعصيصاب في انفصال عن المجتمع الأوسع.

ولنعد إلى المقولة الثانية التي تذهب إلى أن ما حصل عندنا في القرن العشرين، إنما هو تحديث وليس حداثة. كل المطالب التي رفعت في تونس ومصر هي مطالب عادية في عالم اليوم، ومن أميركا اللاتينية إلى مجاهل أفريقيا التي لم تعد مجهولة. لقد نسي فؤاد عجمي - الكاتب اليميني الأميركي المعروف من أصل لبناني - نفسه عندما كان في التسعينات يرد على فوكوياما (صاحب «نهاية التاريخ») الذي قال إن قيم الحداثة تخترق سائر المجتمعات، وليس المجتمعات الغربية وحسب، لأنها قيم تتصل بالمصالح الأساسية للناس، ولا علاقة وثيقة لها بالقيم اليهودية - المسيحية التي تحدث عنها هنتنغتون في «صراع الحضارات». وقتها قال له عجمي: بل إن الإسلام عائق كبير أمام الحداثة القيمية الغربية. أما الآن فيقول عجمي: إن الحداثة (الغربية) اخترقت الفئات الشابة، وأخرجتها من الإسلام الذي تنشره الأصوليات. والذي حدث لا هذا ولا ذاك، وعجمي مخطئ في الحالتين. فالأصوليات موجودة في كل الديانات والثقافات. وما ظهرت وتسيست لدينا وحدنا. بل ظهرت لدى الإنجيليين (الجدد) بالولايات المتحدة. وظهرت أيضا في أديان ما كان معروفا عنها أبدا الانغماس في الشأن السياسي بأي شكل مثل الهندوسية والبوذية. وسبب التسيس في الأصوليات (وليس في الصحوات) الظروف الاستثنائية التي تعرضت لها في التسعينات من جانب الهيمنة الأميركية. فقد جن جنون الناس في أميركا الجنوبية بسبب سوء تصرفات الولايات المتحدة تجاههم لعقود وعقود. ولأن الانتخابات الحرة عندهم كانت متوفرة؛ فقد انتخبوا برلمانات ورؤساء شعبويين يساريين لا تتوافر لبعضهم غير فضيلة واحدة هي: معاداة الولايات المتحدة أو التظاهر بذلك! ولدينا صحوة دينية واسعة علتها الحداثة ومظاهرها النافرة بالفعل. أما الأصوليات المتعملقة والمسيسة بداخلها أو على أطرافها، فعلتها الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على بعض الدول العربية والإسلامية، والحصار الذي ضربه الغربيون على كل المسلمين، حتى أولئك الذين استقروا عندهم بأوروبا وأميركا وأستراليا. وقد كانت لدينا جميعا ردود فعل متوترة على ذلك. وردود الفعل تلك، وهي ردود انكماشية في الأصل، تملك مواجهة وعنفا، لا يعالجه الحل الأمني والعسكري بل يزيده استعارا.

الأمر في أزمة الدولة بالعالم العربي مما أفضى للخروج الشعبي عليها هو ما ذكره الأستاذ المصري نزيه الأيوبي في أواسط التسعينات، في كتابه «تضخم الدولة العربية»: عجز الأنظمة عن القيام بالمهام الأساسية للدولة، وانسداد القنوات التي يمكن من طريقها التعديل والتصحيح وفتح منافذ للإصلاح. فيما عدا ذلك، لا مشكلة لجمهورنا في الإسلام أو معه، وفي قيم الدولة الحديثة أو في مواجهتها.