لماذا تأزمت بين أنقرة ولفكوشة؟

TT

هي ليست المرة الأولى التي يرفع فيها بعض مواطني قبرص التركية شعارات تطالب برحيل الجيش التركي أو يهتفون بانتقاد سياسات أنقرة حيال دولة شمال قبرص التركية التي لم يعترف بها دوليا سوى تركيا رغم مرور أكثر من 28 عاما على إعلانها بسبب تحذيرات مجلس الأمن الدولي في هذا الاتجاه.

مهرجان نقابي في أواخر الشهر الماضي أشرف عليه اليسار التركي في الجزيرة حولته لافتات وهتافات مجموعة من القراصنة إلى أزمة سياسية حادة بين أنقرة ولفكوشة. المتظاهرون هتفوا مطالبين «عائشة» (كلمة السر في بدء العمليات الحربية التي شنها الأتراك عام 1974) بإنهاء عطلتها التي مضى عليها سنوات طويلة والعودة إلى بلادها مع استعدادهم لتحمل ثمن تذكرة سفرها، «أنقرة نحن لا نريد أموالك ولا برامج دعمك ولا موظفيك»، «ارفعوا أيديكم عنا». رجب طيب أردوغان الغاضب سارع للرد عليهم بالقسوة نفسها «تقولون لنا غادروا الجزيرة، كما أن لليونان حساباتها ومصالحها واستراتيجياتها، نحن أيضا لنا حساباتنا ومصالحنا هنا، تتنكرون لمن يغذيكم، من أنتم وما الذي تمثلونه؟». ومع أن رئيس وزراء قبرص الشمالية كوشوك والزعيم القبرصي رؤوف دنكطاش وقفا إلى جانب حكومة العدالة والتنمية وتركيا في هذه الأزمة، فإن أردوغان لم يكتف بهذه التطمينات والمواقف؛ بل طالب بمقاضاة المسؤولين عن هذا التحدي والتحريض الذي يدعمه القبارصة اليونان واستدعى على الفور إلى أنقرة محمد علي طلعت الرئيس الأسبق لقبرص الشمالية الذي قاد حزبه هذا المهرجان وطالبه بالتوضيحات واتخاذ اللازم بحق «ناكري الجميل» لعدم تكرار مثل هذه الإهانة.

الوزير جميل شيشاك، أقرب أعوان أردوغان، دخل هو الآخر على خط المواجهة وذكر القبارصة الأتراك بمبلغ 6 مليارات دولار من المساعدات قدمت إليهم في الإثنتي عشرة سنة الأخيرة وبأن مساعدات العام الحالي وحده ستكون 800 مليون دولار. فتركيا لن تتخلى عن «الوطن الصغير» وبعد أكثر من 60 عاما على التزامات وتعهدات قدمت لأتراك الجزيرة كما قال. لكن رغم كل ذلك، فإنه يبدو أن أنقرة لن تهدأ بمثل هذه السهولة، فهناك «طابور خامس» يحاول أن يشوش على سياساتها القبرصية ويحملها مسؤولية عدم حل النزاع القبرصي تماما كما فعلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أثناء زيارتها الأخيرة إلى قبرص اليونانية.

حقيقة ما لا يمكن إغفاله هو أن سياسات تركيا القبرصية وصلت إلى حالة من خيبة الأمل واصطدمت بالطريق المسدود، وهي التي تحركت منذ مطلع الخمسينات للوقوف إلى جانب القبارصة الأتراك والدفاع عن قضيتهم التي اعتبرتها قضيتها ودخلت في أكثر من أزمة دولية في مطلع الستينات ثم في منتصف السبعينات بسبب اعتبارها حقوق القبارصة الأتراك خطا أحمر لن تسمح لأحد بتجاوزه. ورغم تدخل تركيا العسكري في الجزيرة باسم حق الحماية الذي منحته لها اتفاقيات زيوريخ ولندن عام 1959 وإشرافها على مشروع إعلان دولة قبرص الشمالية ليكون الحل البديل لأزمة الجزيرة، فإن الغرب، وتحديدا الاتحاد الأوروبي الذي قبل طلب الانتساب الذي قدمه القبارصة اليونان عام 1991 ومنحهم العضوية الكاملة عام 2004، تحول هو الآخر إلى لاعب أساسي يقف إلى جانب قبرص الجنوبية باسم حماية الجزيرة ووحدتها وتماسكها وبات المحرك الأول للاستراتيجيات في قبرص التي جعلت منه جارا مباشرا لبلدان الشرق الأوسط عبر توسيع رقعة انتشاره الجغرافي.

ويبقى السؤال الذي يطرحه البعض في تركيا هو صلب النقاش: هل ما يجري هو مقدمة لسياسة قبرصية جديدة تعد لها أنقرة؟ أم هي لحظة غضب وانفعال لأردوغان سيعمل للالتفاف عليها وتليينها في الأيام المقبلة؟ أم إن أردوغان تنبه إلى السيناريو الذي يتحدث عنه البعض ويراهن فيه على احتمال توسع رقعة العصيان والتمرد التي انطلقت في بعض المدن العربية وانتقالها إلى قبرص بشقيها الشمالي والجنوبي لإخراجها من مأزق عشرات السنين الذي ترك سكانها بين حالة اللاسلم واللاحرب وكانت مظاهرات الدوافع الاقتصادية المعيشية في شقي الجزيرة هي بدايتها، لكنها ستتحول على الفور إلى انتفاضة ببعد سياسي يطالب بتوحيد الجزيرة بعد فشل جهود «سعاة الخير» منذ عقود باسم أكثر من عاصمة أوروبية وغربية ومنظمة دولية؟