قلبي يكاد أن يتقطع من شدة الرحمة

TT

بينما كنت ورفيقي ناويين على سهرة بريئة مع صديق (شبه نابه) في منزله، وفي الوقت الذي كنا فيه جميعا جالسين في صالونه (شبه العامر)، رفع ضغطنا طفله الشقي الماكر الذي كلما حاولنا صرفه بالترغيب والترهيب، كان يتشبث بالمكوث معنا، وكأنه يستطلع ماذا سوف نفعل؟!، لأن حتى أكواب الشاي (المنعنش) لم تسلم من تقليبه لها وشمشمتها.

فأراد والده صاحب الدار (النابه) أن يعطيه درسا في أصول التربية الحديثة، فقال له:

اسمع يا حسام، ما دام عمرك ست سنوات يجب أن تذهب إلى فراشك في الساعة السادسة، وفي السنة القادمة، إن شاء الله، سوف يكون عمرك سبع سنوات فتذهب في الساعة السابعة، وبعد أن يصير عمرك ثماني سنوات فتذهب في الساعة الثامنة، هل فهمت؟!، هيا يا حبيبي اذهب الآن إلى فراشك.

فصمت الطفل (الملعون) قليلا، وأخذ يتأمل في هذه العملية الحسابية التي راقت له، وقال: طيب يا بابا، إذا كبرت وصرت في مثل عمرك هل لا أنام إلا بعد أن تطلع الشمس زيك أنت وأصحابك؟!

عندها بهت الأب (النابه) ولم يحر جوابا.

وحيث إنني أعجبت بلعانة ذلك الطفل، فقد حلفت وأصررت أن يجلس ويكمل السهرة معنا (وايش ما يكون يكون) قائلا ما دام أنها خربانة خربانة خلينا نعميها، تعال يا ولد، هل تريد أن أصب لك شاي؟!، فهز رأسه علامة نعم، وقبل أن أمد يدي للإبريق، وإذا بوالده يضرب على يدي قائلا أنت مجنون هل تريد أن تفسد ولدي ألا تعرف أن الشاي بيسهر؟!، قلت له: أنت زعلان ليه؟!، من شابه أباه فما ظلم.

* * *

بمدينة أوروبية كنت واقفا على الرصيف في مساء شتائي كئيب وبارد وممطر، أحاول العبور إلى الجهة الأخرى من الشارع، ممسكا بالمظلة المترنحة من شدة الهواء، لمحت بطرف عيني فتاة قد بلل المطر الغزير ثيابها إلى درجة أنها قد التصقت بجسدها الناحل البض، ولا أنسى أن المسكينة كانت ترتعد من شدة الخوف والبرد، وخطر على بالي أن تواتيني شهامتي المعهودة فأحتويها بجانبي تحت المظلة حتى تعبر الشارع وتكتب لي حسنة، وبينما كنت مترددا أفعل أو لا أفعل؟!، وإذا برجل الشرطة الطويل والعريض الأهوج تسبق شهامته شهامتي، فما كان منه إلا أن يأتي راكضا، ويحمل الفتاة بكلتا يديه ويعبر بها للرصيف المقابل، وما إن أنزلها وبدلا من أن تشكره فوجئت بها تصفعه على وجهه صفعة عنيفة، ولا أستبعد أنه من شدة حماسته قد أوجعها برصها على صدره أكثر من اللازم، وقف بعدها عدة ثوان، ثم كانت المفاجأة الأكبر، وذلك عندما خطفها وحملها مرة أخرى، وما زلت أذكر يديها وهي تضرب على أكتافه، وقدميها وهي ترفس بالهواء، وأرجعها مرة ثانية للرصيف الذي كانت واقفة عليه وأنزلها بجانبي، وعاد إلى مكانه دون أن ينبس بكلمة واحدة.

والغريب أنني بعد ذلك سمعت الفتاة المسكينة وهي تجهش بالبكاء.

فرق لها قلبي رقة لا تصدق، وأخذت أسائل نفسي: يا ولد أفعل أو لا أفعل؟!، وكدت أن أفعل وأتورط فيما لا تحمد عقباه، غير أنني بصراحة وصراحة الصراحة، خفت بعد أن تذكرت الصفعة التي أكلها ذلك الشرطي، وتركتها عابرا للرصيف وحدي، وقلبي يكاد أن يتقطع عليها من شدة الرحمة، لا أكثر ولا أقل.

فلا نامت أعين الجبناء من أمثالي.

[email protected]