مصر: ليست «ثورة دينية».. ولا تحتاج إلى «خميني»

TT

من وظائف الإعلام - السياسي على وجه خاص - تفسير الأحداث والأخبار.. ومن خصائص التفسير، كشف الغموض، وتوضيح الرؤية للجمهور الذي لا يستطيع آحاده القيام بهذه المهمة، لأسباب عديدة. بيد أننا رأينا ما هو عكس ذلك بشأن ما جرى في مصر. فقد خاض الخائضون في تفسير هذا الشأن، وبدلا من أن تزيل تفسيراتهم الغموض وتجلي الرؤية، زادت الأمر غموضا، وزادت الرؤية اضطرابا.. ومن نوع هذه التفسيرات، أن انتفاضة الشباب في مصر «عاصفة عابرة» لا تلبث أن تهدأ.. أو أنها «ثورة فقراء» تنطفئ بزيادة الأجور وما في حكمها من حلول وإسعافات.. أو أنها «ثورة دينية».. أو أنها «مؤامرة خارجية» على مصر.. الخ.

ولهذا الاضطراب الشديد في التفسير أسبابه، ومنها:

أ) سبب أن الحدث المصري أكبر من الجميع؛ أكبر من الأحزاب المصرية، وأكبر من النظام، وأكبر من قراءات الإقليم، وأكبر من دراسات وتنبؤات مراكز البحوث في الولايات المتحدة نفسها وإسرائيل ذاتها!

ب) وسبب «المباغتة».. فالحدث الهائل باغت الناس أجمعين: الأقارب والأباعد. وهي مباغتة دالة على «القصور المروع» في دراسات وبحوث «التبصر في الواقع»، و«استشفاف المستقبل». وهي مباغتة تبرهن - كذلك - على «تخلف العقل السياسي» وعجزه عن التفنن في «الخيال السياسي» الذي يبتدع السيناريوهات كافة، ولا يستثني شيئا منها حتى ذلك الذي يبدو مستحيلا أو مضحكا.. وها هنا نفهم مضمون دراسة غربية نشرت - بمناسبة ما جرى في مصر - تقول: «إن ما وقع في مصر يدل على أن العقل السياسي والاستراتيجي الغربي أصيب بالتحجر أو الترهل، وهي حالة تدعو إلى فقدان الثقة بدراساته وتحليلاته وتنبؤاته وقراءاته للاتجاهات الاجتماعية والسياسية في العالم».

ولنأخذ نموذجا واحدا من هذه التفسيرات ليكون «موضوعا» للدراسة والتحليل والتعليق. وهذا النموذج هو تفسير ما حدث في مصر بأنه «ثورة دينية»، وهو تفسير قال به طرفان متناقضان:

1) الطرف الأميركي الإسرائيلي. فقد سارعت إسرائيل - وجهات أميركية - إلى القول بأن «الإخوان المسلمين» في مصر يقفون وراء هذه الثورة ويديرونها. فهل انبنى هذا التفسير على منهج علمي في التحليل والاستنتاج؟ لا يبدو الأمر كذلك. فالحدث كان مباغتا للجميع - كما سبقت الإشارة - والمباغتة حالة لا تتوافر فيها العناصر الضرورية للبحث العلمي - الاجتماعي والسياسي - وفي طليعتها «عنصر الرويّة الزمنية».. إذن ما هي مصادر هذا التفسير العجل؟ الراجح أن هناك مصدرين: الأول هو: الذهنية التقليدية أو النمطية في التخويف من الإسلام، وهي ذهنية مشبعة بجهالات الخلط بين الإسلام والإسلاميين، سواء كانوا إرهابيين أم غير إرهابيين. ولطالما انتقدنا هذه الجهالات وقلنا: إن الإخوان المسلمين لا يمثلون الإسلام، وهو - من ثم - ليس حكرا عليهم، وليس من حقهم - قط - أن يزعموا أن برامجهم الفكرية والسياسية هي الإسلام نفسه، وأن من رفضها يرفض الإسلام نفسه، فهذه كهانة ينقضها منهج الإسلام نقضا تاما. ومن هنا رفض أئمة الإسلام الكبار أن تكون مذاهبهم هي عين الإسلام.. أما المصدر الثاني للتفسير الأميركي الإسرائيلي العجل لما جرى في مصر فهو أن هذه الأطراف استعارت «أسطورة» فكرية سائدة في الفكر السياسي العربي، الإسلامي وغير الإسلامي، أسطورة: أن كل حدث يقع في عالمنا هذا وراءه - بالضرورة - الاستخبارات الأميركية والحركة الصهيونية! لقد استعار هؤلاء الناس هذه الأسطورة ليفسروا بها ما حدث في مصر، مع التضاد في بواعث التفسير ومعاييره ومقاصده ومجالاته.

2) وثمة طرف «آخر» نقيض ومعاد للطرف الأول، بيد أنه التقى معه في هذا التفسير. فهذا الطرف الآخر فسر ما حدث في مصر بأنه «ثورة دينية»، وبأن هذه الثورة تحتاج إلى «خميني» آخر.. ولسنا نتقول على الناس، فهذه أقوالهم الموثقة ناطقة بتحليلاتهم وتفسيراتهم.. فقد قال السيد علي خامنئي مرشد الثورة الإيرانية: «إن ثورة مصر هي حركة دينية». وقال الشيخ رافسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام: «إن مصر وثورتها في حاجة إلى خميني».. فهذا تفسير خاطئ، جد خاطئ:

أولا: لأنه ينطوي على إيحاء سياسي بأن ما جرى في مصر له روابط ما بإيران، وأن شباب مصر التقى مجموعة من العملاء تحركهم إيران.. وهذا كله إساءة سياسية بالغة لشباب مصر وشعبها كله.

ثانيا: إن هذا التفسير الخاطئ يخدم التفسير الإسرائيلي والأميركي لما جرى ويعطيه القرائن والوجاهة.

ثالثا: لأن مصر ليست إيران، ولن تكون «خمينية» أبدا.. وهذه هي الأسباب الموضوعية الغالبة:

أ) الاختلاف العقدي السياسي الفقهي بين الدولتين.. فإيران تأخذ بولاية الفقيه، وهو مصطلح مقتضاه: أن يتولى «فقيه حاضر» السلطة أو إدارة الدولة بالنيابة عن «الإمام الغائب المنتظر».. تقول المادة (5) من الدستور الإيراني: «تكون ولاية الأمر والأمة في غيبة الإمام المهدي - عجل الله تعالى فرجه - في جمهورية إيران الإسلامية للفقيه العادل التقي العارف بالعصر الشجاع المدير المدبر الذي تعرفه أكثرية الجماهير وتتقبل قيادته».. ويشرح الخميني حدود صلاحية الولي الفقيه بقوله: «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا».

وبالقطع، فإن هذا الفكر والمفهوم لا وجود له في مصر، لا على مستوى جماهيرها، ولا على مستوى علمائها وساستها.

ب) ليس في مصر شيخ، ولا حزب ولا أحد - قط - تجمع عليه الأمة. وتسلمه - من ثم - قيادها على النحو الذي ورد في المادة الخامسة من الدستور الإيراني.. فلماذا الافتعال والتكلف في تفسير الأحداث على نحو يخدم الأهواء والأيديولوجيات، ولا يقدم للناس رؤية صائبة فيما يقع ويحدث؟

ومن الظواهر التي دُست في تفسير ما جرى في مصر بأنه حراك أو «ثورة دينية» إقامة الصلوات في الميادين العامة، وظهور بنات ونساء يرتدين الزي الإسلامي، وجريان كلمات «إن شاء الله» و«بإذن الله» على ألسنة المحتجين.. وهذا تأويل فاسد ومغرض لهذه المظاهر. فالشعب المصري عريق في التدين، ولذلك فإن قريبا من نصفه يواظبون على الصلاة، ولو وصف كل مصل بأنه «أخ مسلم» لكان عدد الإخوان في مصر أكثر من أربعين مليونا!! ولم تكن البنات ذوات الزي الإسلامي في الميادين فحسب، فهناك عشرات الألوف من السافرات كن يتقدم الصفوف في الاحتجاج ورفع الشعارات (وليس مسموحا للإخوانية أن تكون سافرة). أما ذكر الله على ألسنة المصريين فهو نهج عام وتلقائي ودائم.. ومن النكت التي تُحكى - ها هنا - أن شخصين اتفقا على ارتكاب معصية فقال: أحدهما لصاحبه: أخاف ألا ننجح، فقال الآخر: سننجح بإذن الله!!.. ثم إن ما حدث لم يكن قوامه المسلمون فحسب، فقد انخرطت في المظاهرات حشود مسيحية كبيرة، وكان التآخي والتعاون بين الطرفين عميقا جدا.

فليعد الإعلام السياسي إلى وظيفة أساسية من وظائفه الرئيسة وهي: تفسير الأحداث بعلم وموضوعية، وتقديم هذا التفسير للجمهور بأمانة ونزاهة واحترام لعقله ووعيه.