الدرس المصري كان قاسيا.. ولكن

TT

أقوى معلم هو التاريخ، ومن لا يفهم دروسه يصبح منعدم الإرادة أمام الظروف والتحولات، وأذكى تلامذة التاريخ هم الذين يفهمونه من أجل أن يقرأوا المستقبل.

ما الذي جعل العالم يتفاجأ بالثورة التونسية ثم المصرية؟

ليس من المنطق أن يحصل أمر مزلزل كهذا ولا تستطيع التنبؤ به القيادة السياسية وأتباعها، إلا إن كان هناك سور شاهق الارتفاع بين هؤلاء وبين عامة الناس، ولا يمكن أن تتآكل كل مواقع التأثير ولا يبقى محدد لمصير البلد سوى الشارع، إلا إن كان هذا الشارع هو الحاكم الفعلي الذي يلجأ إليه الناس.

إذا لم تمتلك القوى السياسية قدرة على استشراف المستقبل وقراءته قراءة صحيحة مرتكزة على مؤشرات ومتغيرات داخلية وخارجية مؤثرة بشكل مباشر على أحوال الناس الاقتصادية والفكرية، فإنها بلا شك ستفقد قوتها، إن آجلا أو عاجلا، وليس بعيدا عن ذلك ستفقد هيبتها.

تقوم سياسات العالم المتحضر ومواقفه ونظامه على استشارات مع خبراء وطنيين، من المثقفين والأكاديميين، الذين يطبخون هذه السياسات من مواقعهم في الجامعات ومراكز البحوث. وقيمة هؤلاء ليست فقط كونهم يملكون كما معلوماتيا كبيرا أو قدرة تحليلية، بل لأنهم يمثلون العدسة التي ترى الأمور من بعيد، وستكون أكثر شفافية لأنها لا ترتبط بمصالح مباشرة مع القيادات السياسية. هناك الكثير من القوى السياسية سقطت لأنها اكتفت بجماعتها المحدودة من حولها ووثقت فيهم، وهم بدورهم عزلوها عن الحياة الحقيقية التي تجري خلف أسوار القصور الرئاسية.

مؤخرا انكشف الكثير من الأمور حول الساعات الأخيرة للرئيس المصري السابق حسني مبارك في الحكم. من الواضح أن (أبا جمال) خلال أكثر من خمس عشرة سنة كان يستمع للأشخاص الخطأ، منعزلا عن الأشخاص الصح، ولم ير الحقيقة إلا بعد أن فاض بالناس وملوا من هضم حقوقهم ورؤيتهم لمقدرات البلاد تستولي عليها فئة محددة استندت إلى غياب وعي القائد، حتى لم يتبق له سوى الدفاع عن كرامته التي آلمته كثيرا، وحق له ذلك، فهو شخصية باسلة، وصاحب مواقف وطنية شجاعة في الدفاع عن أرضه، لم يخفه سلاح الطيران الإسرائيلي ولم يجرؤ عدو مرتزق على النيل من حدود وطنه، ولكنه اليوم خشي على كرامته من أقرب الناس إليه، وأقرب الناس للحاكم هم شعبه، ليس حتى أهل بيته.

لم يتوقع مبارك من شعبه مقدار الألم الكبير الذي طاله منهم، لأنه ظن أن ذاكرتهم ستحتفظ بمواقفه الوطنية التاريخية أبد الدهر، لم يقل له أحد إن العدو الأول للأوطان هو الفساد، وإن ذاكرة الجائعين مثقوبة.

من الأهمية بعد هذا الدرس القاسي أن تتبنى الدول العربية مبدأ التفكير الاستراتيجي، لأن هذا المبدأ هو الترمومتر الذي يستمر في قياس التحولات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تحيط بالناس أو تنطلق من بينهم، ولا يقوم بهذا العمل الكبير سوى أهل الاختصاص من الاقتصاديين والسياسيين والتربويين وعلماء الاجتماع، وكل هؤلاء مستوطنون للجامعات التي تمتلك المقومات لعمل الأبحاث والدراسات. الأكاديميون والباحثون هم الذين يقصون أثر الطريق، ويتنبأون ويقدمون البراهين، وخاصة إن كانوا من أبناء الوطن لأن رؤاهم في هذه الحالة ستخرج من صلب ثقافتهم، لا من أصلاب ثقافات الغير، منطلقة من معرفتهم لجذور الموروث المجتمعي، والخامة الثقافية المحلية، ودور العامل الخارجي في خلق مفاهيم جديدة في أذهان الشباب.

لذا كان من الجدير بالتقدير أن تولت جامعة الملك سعود عمل استراتيجية وطنية للأمن الفكري، وهو عمل جبار من جهة تمتلك باقة متنوعة من المتخصصين، لتقدمه للجهة المعنية وهي وزارة الداخلية السعودية، المستفيد المباشر وليس الوحيد من هذه الاستراتيجية التي تناولت حتى السيناريوهات المستقبلية المتوقعة، بناء على دراسة المعطيات التاريخية والمتغيرات الراهنة. إن دور الجامعات يتجاوز بمسافة كبيرة عرض المقررات الدراسية داخل الحرم الجامعي إلى بناء القيم المجتمعية أو هدمها، كحمام الزاجل تطير برسائلها نحو فضاءات ممتدة. قال ذلك بوضوح الرئيس الأميركي باراك أوباما، حينما استخدم منبر جامعة القاهرة لإلقاء خطابه الأول للعالمين العربي والإسلامي.

كيف نقرأ المستقبل؟ ومن يقرأ المستقبل؟

في الإجابة عن هذين السؤالين يكمن سر الاستقرار، والرخاء، والطمأنينة.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]