ثورة الإسكندرية والسويس

TT

أصبح ميدان التحرير، ومعه مدينة القاهرة، بالنسبة للعالم كله معقل الثورة المصرية التي أطاحت بالرئيس المصري السابق حسني مبارك، لكن الحقيقة التي يفهمها القليلون هي أن الثورة لم تكن في ميدان التحرير، كما أنها لم تكن بالقاهرة، بل كانت في حي الأربعين في السويس.

أعرف أن مقولة كهذه ضد المألوف والسائد، ومع ذلك أصر عليها حتى تتوازن لدينا الرؤية حول ما حدث في مصر، حتى نحدث توازنا بين ما حدث في القاهرة، وما جرى في السويس والإسكندرية، المدينتين اللتين قدمتا معظم الشهداء للثورة المصرية. في السويس وفي حي الأربعين كانت المواجهات الدامية بين قوة الأمن المركزي، تلك القوة المليونية التي اعتمدت عليها وزارة الداخلية المصرية لقمع المتظاهرين منذ سبعينات القرن الماضي، وبين المواطنين. وهذه المواجهات قتل خلالها ثلاثة أشخاص في اليوم الأول للمظاهرات. قدمت السويس 28 شهيدا للثورة، كان أولهم عبد الرحمن ابن عم صبحي الذي استشهد يوم 25 يناير (كانون الثاني). التقيت عم صبحي في القاهرة في استوديو قناة «الحياة»، يومها قال الرجل، بعد سرده قصة استشهاد ابنه، أهم عبارة دعاية حركت الشعب المصري، وكانت بمثابة المسمار الأخير في نعش نظام الرئيس مبارك، حيث قال عم صبحي على الهواء مباشرة، بعد أن أبكى المشاهدين «ده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ماحكمش المسلمين 30 سنة، يطلع مين حسني مبارك ده؟»، عبارة تلغرافية وصلت لقلوب المصريين العاديين في النجوع والقرى.

وفي رأيي كانت أقوى عبارة قيلت في ثورة مصر كلها. وقد ظهرتُ بعده في الفقرة التي تلت حديثه على قناة «الحياة»، ولم أجد شيئا أقوله من هول الصدمة سوى أن أكرر عبارته «سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ماحكمش المسلمين ثلاثين سنة». صمود حي الأربعين وصمود السويس وصمود عم صبحي وأمثاله بعد أن هزموا قوات الأمن المركزي في شوارع السويس هو الذي جعل ميدان التحرير يصمد، وليس العكس.

لم تكن مدينة الإسكندرية أقل بأسا من السويس في ثورة 25 يناير، ففي أحداث جمعة الغضب وحدها سقط من أبناء الإسكندرية 87 شهيدا، وهذا العدد لم يسقط في القاهرة. استمرت الإسكندرية في مظاهراتها طوال سبعة عشر يوما من المظاهرات، وكانت مظاهرات الإسكندرية، وصمود هذا الثغر العظيم، الأساس في إجبار مبارك على الرحيل. لقد فشل محافظ الإسكندرية ذو السمعة الإعلامية مدفوعة الأجر في أن يحتوي المظاهرات، وفشلت قوات الأمن في مواجهة متظاهري الإسكندرية. وهرب محافظ الإسكندرية من ديوان المحافظة بعد أن هشمه المتظاهرون. الإسكندرية، معقل كنيسة القديسين التي شاع أن وزارة الداخلية هي المسؤولة عن تفجيرها - حسب آخر التقارير عن الحادث - كانت العمود الفقري لثورة 25 يناير، ومن دونها لما كان لميدان التحرير أن يصمد.

ومن هنا أتوجه إلى إخواننا في القاهرة الذين يحتكرون الثورة، ويسمونها ثورة ميدان التحرير، بأن يضعوا نصب أعينهم تلك التضحيات التي قدمتها السويس والإسكندرية، المدينتان اللتان تمثلان عصب الثورة وعمودها الفقري، فالإسكندرية والسويس أجدر بأن تمثلا في كل اللقاءات السياسية بمثل ما تمثل به القاهرة.

الثورة لم تكن مركزية، بل كانت ثورة الأطراف، الإسكندرية والسويس وطنطا والمنصورة وبني سويف والمنيا وأسيوط.. هذه الاحتجاجات هي التي أجبرت مبارك على التنحي، فنظام مبارك المعروف بسلطويته لم يكن ليقيم لمن في ميدان التحرير وزنا، لو لم يعلم أن لهم حاضنة وطنية كبيرة في كل مصر. رغم وجودي في ميدان التحرير خلال سبعة عشر يوما من المظاهرات، فإنني أرى أن السويس والإسكندرية أولى بكثير من القاهرة في هذه الثورة المباركة.

فهل نكون منصفين ونعطي كل ذي حق حقه، بدلا من تسميتها بثورة الـ«فيسبوك»؟.. فالموت كان حقيقيا في هاتين المدينتين، ولم يقتل الشهداء في العالم الافتراضي، بل قتلوا في حي الأربعين. فعلى المجلس العسكري الحاكم أن يأخذ هذا في الاعتبار وهو يتحاور مع كل من هب ودب في القاهرة.. الثورة ليست ثورة القاهرة فقط.