«الإخوان» والامتحان

TT

صحيح تماما أن الثورة الشعبية المصرية كانت ثورة مدنية، حركتها مطالب اجتماعية واقتصادية وسياسية وعبرت عن طموحات أجيال شابة تؤلف اليوم غالبية سكان المنطقة، لم تستطع لا الأنظمة ولا المعارضات ولا الأيديولوجيات السائدة أن تستوعبها، وبدلا من أن تقود المعارضة المنظمة عملية الاحتجاج كما حصل في الكثير من الحركات الشعبية، فإن تلك المعارضة ركبت الثورة وجلست في مقعدها الخلفي، منقادة بدلا أن تقود.

ولكن في حالة الإخوان المسلمين يبدو لي أن الجلوس في الخلف كان خيارا مدروسا بعناية أكثر من كونه نتيجة لضعف الحركة أو تأخرها. لقد استعمل «الإخوان» نوعا من التقية الذكية من أجل إبطال الحجج التي حاول النظام أن يراهن عليها في تأليب القوى الغربية على الثورة بالقول إنها مدفوعة من الإسلاميين وستتحول إلى حركة شبيهة بالثورة الإيرانية، ثم جاء موقف «الإخوان» بالإعلان عن نية عدم ترشيح أي من أعضائهم لانتخابات الرئاسة القادمة ليمثل استمرارا لسياسة جديدة تتسم بالاعتدال السياسي والتراجع عن المناهج الراديكالية ولتأهيل الحركة للوضع السياسي الجديد القائم على التنافس الديمقراطي، ومن هنا أعلنت الحركة أيضا أنها بصدد إقامة حزب سياسي في خطوة أخرى بنفس الاتجاه تؤشر إلى أن الإسلاميين بدأوا يدركون أن اللعبة الديمقراطية تحميهم قبل غيرهم، وأن «الحزبية» ليست عصيانا للدين أو فتنة بقدر ما هي آلية معاصرة لتنظيم الحراك السياسي واللعبة الديمقراطية.

لقد راهن النظام المصري والعديد من حكومات المنطقة على استخدام بعبع الحركات الإسلامية وكونها «البديل الوحيد» من أجل كسب تأييد القوى الغربية لبقاء تلك الأنظمة ولقبول فكرة أن هذه الشعوب ليست جاهزة للديمقراطية، وهي فكرة بدا أن الرئيس المصري السابق والعديد من أركان حكمه كانوا من أبرز المروجين لها، فضلا عن عدد آخر من المسؤولين والكتاب في المنطقة، من دون أن يقدموا وصفة لكيفية إعداد تلك الشعوب للديمقراطية إذا لم يمارسوها، ولنكتشف فيما بعد أن عدم الجهوزية للديمقراطية هو مشكلة الأنظمة لا الشعوب.

ولإضفاء المصداقية على فكرة أن البديل الوحيد هم الإسلاميون سمح النظام للتيارات الدينية المتشددة بالظهور والتأثير في ساحات لا تهدده، واستفاد من ذلك العديد من التكفيريين والتحريميين الذين حولوا القضاء المصري والإعلام إلى وسائل للهجوم على من يخالفهم بالفكر أو من يعتقدون وفق تفسيرهم المتشدد للدين أنه خارج عن العقيدة، فرأينا عمليات ومحاولات اغتيال ودعوات بالتفريق على الكثير من المفكرين والكتاب، وبدا النظام متساهلا في ذلك من أجل أن يؤكد صورة أن المجتمع خاضع لهيمنة الإسلاميين المتشددين.

لكن ثورة ساحة التحرير حررت الجميع من هذا الوهم، وأظهرت الوجه الآخر الذي حاول كل من النظام والإسلاميين المتشددين إخفاءه، وهو وجه الشباب المدني المتطلع لعصر جديد والذي لا يسعى أبدا العودة إلى الوراء وليست لديه عقدة نقص تجعله يفكر بالماضي فقط. القوى الغربية بدا أنها لم تعد تشتري منهج التخويف من الإسلاميين بل بدأت تراهن على إمكانية السماح لهم بالانخراط في اللعبة الديمقراطية كوسيلة لإجبارهم على الاعتدال وعلى نهج طريق التسويات، وأيضا كوسيلة للحد من الشرعية التي كسبوها وهم يظهرون بمظهر الضحية.

اليوم الامتحان الحقيقي هو الذي يخوضه «الإخوان»، وأعتقد أنهم نجحوا بتقيتهم في دعم الثورة وفي الإعداد للخروج بمظهر جديد، ولست ممن يقول بأنهم سيكونون قوة ثانوية بل إن تاريخهم الطويل في التنظيم وفي الممارسة الانتخابية حتى في ظل نظام كان يزور الانتخابات بشكل سافر، يؤكد أنهم سيسعون قدر الإمكان لكسب شرعية انتخابية لا سيما عبر الأصوات التي سيحصدونها في أي انتخابات قادمة في مناطق الأرياف، فمصر ليست ساحة التحرير فقط ووجودهم في مناطق الهامش ربما سيكون فاعلا في منحهم وزنا انتخابيا كبيرا يجعلهم كتلة مؤثرة.

حركة الإخوان المسلمين هي أقدم حركة سياسية إسلامية في المنطقة، وعبر تاريخها صارعت أنظمة مختلفة، وأنتجت تيارات متعددة بعضها مال إلى التشدد محاكيا فكر سيد قطب الذي وصل إلى حد تكفير المجتمع واعتباره يعيش جاهلية معاصرة، وبعضها مال إلى الاعتدال فقدم مراجعات مهمة كتلك التي يعبر عنها جمال البنا شقيق مؤسس الحركة أو حركة الغنوشي في تونس. ثورة المجتمع المصري تنفي بالتأكيد جاهليته التي افترضها قطب، وتقوي الاتجاهات المعتدلة التي يمكنها أن تعيد تشكيل الفكر السياسي الإسلامي ليس بالتنظير المجرد بل من خلال الممارسة التي تضع حدا نهائيا لأسطورة أن الإسلام والديمقراطية لا يتجانسان.