من هو طارق البشري؟

TT

صدر يوم 14 فبراير (شباط) الحالي قرار المجلس العسكري الأعلى في مصر بتعيين طارق البشري رئيسا للجنة تعديل الدستور. كان تعديل الدستور شعارا أساسيا من شعارات ثورة مصر الشعبية التي حملت اسما رمزيا آخر، هو ثورة «ميدان التحرير». كان أغلب شباب الميدان في الثلاثين من عمرهم، ولكن كان لهم نصير سبعيني خارج الميدان هو طارق البشري، كتب خلال أسابيع الثورة الثلاثة، أعمق المقالات عن أولئك الشباب وثورتهم، محاولا حماية ثورتهم من الانحراف والاحتواء، الذي عبر عنه بوضوح، موقف البيت الأبيض الأميركي، والرئيس السابق حسني مبارك في خطاباته الأخيرة، وعمر سليمان في محاوراته مع بعض من قبل الحوار معه، حيث أطلق شعاره الشهير: وصلتنا رسالتكم... اذهبوا إلى بيوتكم.

أتيح لي أن أعرف طارق البشري شخصيا، حتى أنني أستطيع أن أدعي أنني صديق له. عرفته يساريا وقائدا في الحركة اليسارية المصرية. وعرفته قانونيا ومؤرخا. وعرفته متواضعا إلى درجة تخفي علمه ومكانته الفكرية العميقة والفريدة من نوعها. وعرفته مهذبا يغريك أن تتعامل معه ببساطة وكأنه شخص عادي، أو كأنك مواز له.

وفي مطلع السبعينات، جاء إلى بيروت في أجواء الحرب الأهلية، مثقفون مصريون: محمد عودة، رفعت السعيد، مصطفى نبيل، وطارق البشري، والتقيتهم جميعا في سهرة حميمة في منزل صديقنا المشترك والصحافي المصري البارز مصطفى الحسيني، وكنا نعمل آنذاك معا في جريدة «السفير» اللبنانية. ولاحظت يومها أن طارق البشري لا يتناول المشروبات مع الآخرين، وكان قد أصدر قبل حين عام 1972 كتابه الشهير (الحركة السياسية في مصر من 1945 - 1952) وفيه نقد شديد لسياسات الحركة الإسلامية. اقتربت منه وسألته عما يفعل الآن، فجلس وأخبرني بالتفصيل عن سعيه كمؤرخ، لإعداد كتاب عن الحركات الإرهابية - الدينية في مصر، وكانت حركة الإرهاب آنذاك في بداية بروزها. قال لي: طلبت كتب هذه الحركات، وفوجئت بالعارفين يقولون لي: لا توجد لهم كتب منشورة. ولم يدفعني هذا الجواب إلى اليأس، بل اعتبرت أن من واجبي أن أسعى لمعرفة آرائهم ومواقفهم بأي وسيلة ممكنة، فسألت عن زعمائهم و«شيوخهم»، فذكروا لي بعض الأسماء البارزة، والمساجد التي يلقون دروسهم بها، والأيام المخصصة لهذه الدروس. فوضعت برنامجا لنفسي، أن أذهب إلى تلك الدروس في مواعيدها، وأن أدون ما يقوله أولئك الشيوخ، لتكون أقوالهم مصدري في الكتابة بدل الكتب.

وقال لي: فوجئت يوم بدأت هذا العمل بحجم الحشد الشعبي الكبير لدى كل شيخ في موعد درسه. تجمع بعشرات الآلاف يملأ المسجد والصحن ويمتد إلى الشوارع والأرصفة. وتذكرت مهرجانات أحزابنا اليسارية التي يستغرق التحضير لها أسبوعا أو أسبوعين، والتي يتم الاستنجاد بالأعضاء في المدن الأخرى لتأمين حضورهم، ثم يسفر الأمر عن مهرجان لا يتجاوز عدد الحضور فيه خمسة عشر ألف شخص، ثم يتم اعتبار هذا المهرجان ناجحا، بينما ها هو شيخ غير معروف، يلقي درسا في يوم ما، وفي موعد ما، ويحضر لسماعه هذا الحشد الهائل من الناس، من دون دعوة، ومن دون تحضير.

وهنا سألت نفسي - والكلام لطارق البشري -: من يخاطب قادة اليسار حين يكتبون أو حين يخطبون في الناس؟ إنهم يخاطبون جمهورا يساري النزعة، جمهورا مؤيدا لهم، ولا أحد من خارج هذا الجمهور. بمعنى آخر: نحن نخاطب أنفسنا حين نتحدث أو نكتب. نحن لا نخاطب جمهور الشارع المصري. وكانت هذه نقطة أساسية دخلت في عقلي وفي تفكيري، وأدركت أننا نحتاج إلى لغة جديدة نخاطب بها الناس، وإلا سنبقى معزولين عنهم، ولا بد لهذه اللغة الجديدة أن تكون مفهومة لديهم. وحين نحتاج إلى لغة جديدة فأنت تحتاج أيضا إلى فكر جديد يدعم الكلمات الجديدة. وأدركت دون عناء أن كلمات الثقافة الإسلامية هي كلمات اللغة الجديدة المطلوبة لإيصال أفكار التقدم والعقلانية والتطور إلى الجمهور المصري. وهكذا بدأت رحلة التطور في تفكيري.

في هذه الرحلة انتقل طارق البشري من لغة العلمانية إلى لغة الفكر الإسلامي. كان طارق البشري رجل قانون، درس الحقوق في جامعة القاهرة، وعمل منذ تخرجه وهو في العشرين من العمر، في «مجلس الدولة» عام 1955، ولم يغادره إلا عند سن التقاعد عام 1998، وبعد أن أصبح نائبا لرئيس «مجلس الدولة».

ويعرف كل من درس القانون، أنه لا بد أن يطلع على التشريع الإسلامي، ومذاهب الفقه، وما قدمه الفقهاء العرب والمسلمون للفكر القانوني العالمي. ويتحدث طارق البشري عن ذلك بقوله: «في كلية الحقوق كنت علماني التفكير، وكانت دروس الشريعة الإسلامية من الأشياء التي أبقتني منجذبا إلى الإسلام كنظام في المجتمع والمعاملات، وكنت أشعر من شدة احترافي للقانون، ومن هضمي للتركيب الفني لأحكام الشريعة الإسلامية، وللبناء الفقهي الذي انجدلت منه الأحكام المستخلصة من أحكام الشرع الإسلامي في القرآن والسنة، أن الفقه الإسلامي هو من أعظم ما تفتقت عنه العقلية الإسلامية فيما قدمت للحضارة الإنسانية». (من حوار مع الدكتورة ليلى البيومي).

وهذا الرأي لدى طارق البشري ليس فريدا من نوعه، فقبله قال به أساتذة قانون كبار، من نوع القانوني الشهير (عبد الرزاق السنهوري)، وقال به مفكرون كبار من نوع محمد عابد الجابري اليساري، الدارس للإسلام بدوره، وقال به المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري، ولكن المهم هنا أن طارق البشري تشبع بهذا الرأي وهو علماني، وهو طالب في الجامعة، وهو متعلق سياسيا «بالحركة الوطنية والاستقلال، حيث كانت هذه القضية هي التي تجذبني». وعلى قاعدة هذه المعرفة، كان من الممكن الانتقال من العلمانية إلى التعمق في الفكر الإسلامي، وإلى السعي لتطويره وربطه بالعقلانية، وليس بالمعنى السطحي للكلمة.

كان طارق البشري يشع فكرا واحتراما ومودة على كل من حوله. وهنا أذكر حادثة فريدة من نوعها، كان بطلها فقيدنا الكبير الراحل الشيخ عبد العزيز التويجري، رائد مهرجان الجنادرية السعودي، ورائد ندوة المهرجان الفكرية. كان رحمه الله، يتعمد أن يلتقي كبار ضيوفه من الكتاب والمفكرين، في جلسات خاصة ومتتالية. وفي يوم ما سألني: هل رأينا كل من تجب رؤيته؟ فسألته: هل رأيت طارق البشري؟ وكان يدعى إلى الجنادرية للمرة الأولى، فأجاب بالنفي، واقترحت أن يلتقيه، ثم لم أعرف ماذا جرى بينهما. وفي العام التالي، ومع بدء مهرجان الجنادرية، شاهدت الشيخ التويجري في مضافته، متوترا وقلقا، ويسأل مساعديه بشكل متصل: هل وصل طارق البشري؟ أحضروه من المطار فورا إلى هنا. فأدركت أن لقاءهما العام السابق قد أثمر صداقة ومودة واحتراما، وبخاصة أن فقيدنا الشيخ التويجري كان رجلا عارفا بالرجال.

لكل هذا يجد الجميع في مصر أنفسهم مرتاحين لإسناد هذه المهمة الجليلة، مهمة تعديل الدستور، إلى طارق البشري، الرجل الذي قارب الثمانين، بينما يرتاح له شباب الثلاثين في «ميدان التحرير».