خواجة يني

TT

ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن شخصية خواجة يني، هذه الشخصية التي شكلت جزءا من تراث المدينة، وحكاياتها العذبة، فهذا الرجل القبرصي اليوناني عاش عقودا في مدينة جدة، ولم يغادرها إلى بلاده إلا في عقد الستينات من القرن الماضي، وقد أسس خلال وجوده فيها أول بقالة بمفهوم عصري أطلق عليها الناس اسم «بنك ينّي»، وكان يبيع فيها الجبن بأنواعه، والزيتون، والباسطرما، والأسماك المجففة التي يستوردها من اليونان، وكان لشخصية الرجل دور في ذيوع شهرته في المدينة، فهو خواجة بمقاييس شعبية، حيث ربطته بالكثير من أعيان المدينة وعوامها روابط حميمة، يبادلهم النكات والمقالب و«القفشات»، ولا يسلم من تعليقاته «الحرّاقة» الكثير من المارة، أحبه الناس وأحبهم، فعاش بينهم في دعة وسلام، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، يصوم معهم شهر رمضان، ويختفي من متجره أوقات الصلاة.

حينما قررت بلدية جدة إزالة جزء هام من المدينة التاريخية لافتتاح شارع الذهب، كان ينّي الصوت الوحيد الذي أدرك فداحة الأمر، ونبه إليه، وظل ينظر بحسرة إلى «التراكتورات» وهي تقضم تاريخ المدينة، وتراثها، وماضيها، وكان يودع كل بيت، وسوق، وزقاق قبل الإزالة كما يودع العاشق معشوقته.

كنت صبيا آتي إلى متجره مبعوثا من الأسرة لشراء بعض الحاجيات، فتلفت نظري أناقة الرجل، وتسريحة شعره، ومظهره، فضلا عن نظافة متجره، وأسلوب تعامله، فيسلمك كامل مشترياتك، وعليها قطعة حلوى - فوق البيعة - هدية منه إليك، وإن لم يكن مشغولا في خدمة الزبائن فقد يخوض معك في شؤون دراستك، وأحلامك المستقبلية، وكان يوصي الطلبة برفع مستوى الطموح ليكونوا مهندسين، وأطباء، وعلماء ينهضون بالبلد في مختلف مجالات الحياة.

تحت إغراء هذه الشخصية، تمنيت أن أكتب رواية بعنوان «خواجه ينّي»، تغوص في أعماق شخصية الرجل، وتكشف مقدراته على التكيف مع مدينة لم تكن تزيد مساحتها عن كيلومتر مربع، وأعترف أنني أتعثر منذ سنوات في كتابة هذه الرواية، والقبض على شخصية الرجل، رغم كتابة عشرات الصفحات.

أتذكره اليوم بعد أن التقيت بمن أخبرني ببعض ما جرى لينّي بعد مغادرته جدة إلى بلاده، فلقد عاش سنواته الأخيرة في وطنه غريبا في عيون الناس، والناس غرباء في عيونه، حتى ودع الدنيا، وفي قلبه شيء من الحنين تجاه مدينة ومضت في دواخله كنجمة في غمرة المسافات.

[email protected]