المفاجأة هي الثابت الوحيد

TT

ليست هناك قواعد ثابتة لهذا العالم، وليس صحيحا أن التاريخ يكرر نفسه، وليس دقيقا أن الثورات عدوى.. هذا عالم قاعدته الثابتة الوحيدة، المفاجأة. إثر استقلال جنوب السودان عددت «بي بي سي» الانفصالات التي وقعت خلال ربع قرن: يوغوسلافيا، تشيكوسلوفاكيا، شرق التيمور.. وقالت إن هذه ظاهرة العصر وعلامته. ولكن أعمق وأهم من كل هذه الانفعالات إعادة توحيد ألمانيا ووحدة أوروبا. كيف يسهل توحيد ألمانيا بنصفها الشيوعي السابق وحجمها وتعدادها، ولا يمكن إعادة الوحدة إلى جزيرة صغيرة مثل قبرص؟ القبارصة جذر واحد. الصرب والبوسنيون عرق سلافي واحد، ومع ذلك قرر الصرب «القيام بتطهير عرقي».

الدول الصغيرة أسعد حظا لكن خوفها دائم وعظيم. تقاتل وتذابح الصرب والكروات، والآن يعقدون اجتماعات دائمة للبحث عن سبل التعاون.. هل هو تفضيل التعاون من دون رئيس ومرؤوس.. قوي وضعيف؟

سوف يتطلع «الجنوب السوداني» حوله ويتأمل نفسه ويكتشف أمرا عجيبا: لا يزال جنوب السودان. وسوف يجد أن جميع طرق التعاون الحيوية تؤدي إلى شمال السودان، فلماذا انفصل؟ من أجل القليل من الكرامة في التعامل. كل حياتنا مؤلفة من أشياء بسيطة. نجحت الإمبراطورية الرومانية لأنها أعطت ولاياتها أكبر قدر ممكن من الهوية الذاتية. لم يخرج الأجنبي من بلد إلا وسط الزغاريد، مهما كانت مآثره وآثاره.

توحدت يوغوسلافيا في مناخ الحرب خلف قائد مذهل يدعى تيتو، وتفككت في سرعة عندما تراجع الجو القومي وحلت محله ذكريات الحروب الأهلية الماضية. مجرد أغنية حماسية تحرك في البشر برك الدماء وأنهار العداء. سوف تكون هذه سمة هذا القرن: التنازع ليس بين الدول المتجاورة؛ بل ضمن الدول نفسها.. ليس بين الأعراق أو الأديان، بل ضمن العرق والدين نفسه: الظواهر مقلقة ولم يعد من الممكن تغطيتها بأي ألفاظ مخففة، في لبنان والعراق والسودان.. وقبلها بين الأرثوذكس والكاثوليك في يوغوسلافيا، أو بين أهل بلجيكا المتنازعين ضمن لغتين؛ فرنسية وهولندية.

لم يعد هذا النوع من الصراع العبثي حكرا على دول نامية مثل رواندا، بل صار معلنا بين الشمال الصناعي والجنوب الريفي في إيطاليا. وما من قاعدة أو مقياس واحد لظواهر هذا العالم وقضاياه وبراكينه وتياراته.. لا شيء يتكرر سوى النقائض: الوحدة والانفصال.. السلام والحرب.. العقل والجنون.