يا تين يا توت يا رمان يا عنب!

TT

والله ما نسيت.. والله حاولت.. ذهبنا معا إلى شاعر العراق حافظ جميل.. إنه رجل هادئ الطبع خفيض الصوت هامس دافئ النبرة، ولكنْ تحته بركان من المشاعر والشعر. كنا: أحمد رامي وصالح جودت وأنا في سنة 1958.

كنا في بيروت ورأينا أن نزور شاعر العراق الجميل.. وذهبنا.. وطلبت إليه أن ينشدنا قصيدته الشهيرة التي لجمالها ورقتها وانتشارها تمناها وادعاها شعراء آخرون، من بينهم الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، وكان حافظ جميل يتوقع ذلك فأنشد بعضها في مداعبة فتاة اسمها «تين».

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

يا خير ما أحبت الأغصان والكتب

مشتهى كل نفس مسَّها السغب

يا برء كل فؤاد شفه الوصب

وهي قصيدة طويلة (ستجدها منشورة كاملة مترجمة في ديوان الشاعرة صديقتي كاتولينا).

سألتها: ما رأيك؟ قالت: في أي شيء؟ في الشاعر؟ في الشعر؟ في الجو؟ قلت: فيها كلها.. قالت: شعر في شعر. إن لغتكم العربية غنية: موسيقى ودفء وشعراء. فصوت حافظ جميل حرير وطيب.. ومن فاته سحر الشعر فلا يستطيع أن يفلت من سحر الشاعر.

ثم زرناه.. وطلبت إليه أن يلقي قصيدة «يا تين».. قالها حافظ جميل وهو يتثنى. ثم التفت إليها وقال لها: بالله هل قلت شعرا يترجمه أخونا أنيس؟ قالت: نعم. وترجمه أنيس شعرا ونثرا.. أريدك أن تتعايش مع موسيقى اللغة الإيطالية.. نثرها شعر وشعر.. اسمع:

لا فورتونا..

فصرخ حافظ جميل: مرة أخرى.. وأنشدت قصيدتها كاملة تتثنى وتئن وتتوجع.. وحافظ جميل يقول: زيديني.. قولي أطال الله عذابنا.. قولي يا عذاب إيطاليا زلزل بلاد الرافدين.. إن شعرا يحدث هذا الذي حدث في وجدان شاعر «نبض الوجدان» لا بد أن يكون شعرا بديعا.. أنا لا أريد أن أسمع الترجمة.. فلا أظن أن في لغتنا مثل هذه الموسيقى في كل كلمة.. لا ترجمة.. اللعنة على الترجمة.. ودار رأسه دورات كاملة وأقسم أن تنشر القصيدة باللغة الإيطالية، وكلما هممت أن أترجم له قال: اللعنة على الترجمة والمترجمين.. فأنا أسمعها بلغتها أو لا أسمعها مطلقا. قال: قولي.

قالت له: وأنت قل لي «يا تين» كاملة وبلا ترجمة.

وكانت ليلة من ليالي بغداد.. بغداد التي كانت.

(من مذكرات لم تنشر بعد)