«الشعب يريد إسقاط الدعم الأميركي للاستيطان»

TT

أغرب ما تشهده ثورات الحرية التي تعم العالم العربي والتي تبرهن للعالم أن العرب شعب حي يعشق الحرية، ومستعد للكفاح والموت من أجلها، هو عودة المحافظين الجدد، من تحت ركام جرائمهم التي ارتكبوها ضد الإنسانية، لرفع رؤوسهم الملطخة بعار الحروب، والتعذيب، للادعاء بأنهم «كانوا على حق»!!

فقد كتب «مفكر» الاحتلال والاستبداد إليوت أبراهامز أكثر من مرة مدعيا «أن التحول إلى الديمقراطية قد بدأ في العراق»، الذي تركوه مدمرا يحمل الملايين من شعبه جراح الفتنة، والانقسام، والمجازر، والدمار. وكتبت كوندوليزا رايس لتستشهد بما قالته وليس بما قامت به من دعم للاحتلال الإسرائيلي، والحرب على العراق ولبنان، والتعذيب في أبو غريب، وتوزيعها القبل على طغاة وفاسدين دعموا حرب الطغاة الإسرائيليين على لبنان، وغزة، بينما كانت الطائرات الأميركية تورد لإسرائيل ملايين القنابل العنقودية التي ما زالت تنشر الموت في أرض الجنوب، كما شاركت رايس بصنع القرارات الأميركية لاستمرار الاضطهاد الإسرائيلي لملايين الفلسطينيين، وهي التي ساهمت في تدمير الديمقراطية الفلسطينية، واليوم لا يهتز لها رمش هي وبناة سجون غوانتانامو وأبو غريب، وممثلي الحرب على العراق وأفغانستان، وداعمي أنظمة الاستبداد والفساد، بأن يدعوا أنهم كانوا مع «نشر الديمقراطية في البلدان العربية»؟! متناسين أن الثورة الديمقراطية المنتشرة في الأرض العربية هي في العمق رد صارخ على الاستباحة الأميركية لحرية العرب في فلسطين، والعراق، والدعم اللامحدود الذي يلقاه منهم ولا يزال أبشع احتلال عنصري في تاريخ البشرية على حساب كرامة وحرية شعب فلسطين الذي تتم عمليات تطهيره عرقيا من أرضه أمام نظرهم وبدعم الولايات المتحدة منذ أكثر من ستين عاما وحتى اليوم. فقبل أيام فقط أعلنت السيدة كلينتون، خلف رايس ووريثتها في العداء لتحرر العرب من الاضطهاد الإسرائيلي، «أن قرارات مجلس الأمن ليست السبيل الصحيح للتقدم نحو تحقيق الحل القائم على دولتين في النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني»، وفي اليوم التالي تكتشف كلينتون أن هذا «الحل» الذي تروج له يتمثل في استخدام «الفيتو» ضد صدور قرار، مجرد قرار غير ملزم في مجلس الأمن، لإدانة الاستيطان الإسرائيلي الذي يعني قانونيا النهب الإسرائيلي لأرض الشعب الفلسطيني، والذي هو عمليا تطهير عرقي إسرائيلي رسمي ومعلن لمدن وقرى وأحياء الفلسطينيين لصالح مستعمرين يهود. لقد تشكل وعي ثوار الحرية العرب، في تونس ومصر وفلسطين ولبنان وغيرها، في الأمس واليوم وغدا أيضا، في حملات التضامن مع الكفاح الفلسطيني من أجل الخلاص من العبودية الإسرائيلية، وفي الحركة المناهضة للغزو الأميركي للعراق، وأيضا في مناهضة الحصار الإسرائيلي الوحشي على غزة.

على ساسة الولايات المتحدة أن يدركوا أن هذه الثورات الحالية هي ثورات ضد الدعم الغربي للاستبداد، والاحتلال، والفساد، والتبعية، هذا الدعم الذي بدأت أنظمته الموالية للغرب تتهاوى اليوم تحت مطرقة قوى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بأيد عربية خالصة وسيفاجأ الغرب مرة أخرى بإرادة، وتصميم، وقدرة الشعب العربي على تغيير دفة مستقبله بعيدا عمن فرضوا الذل، والقهر، والاحتلال على شعوبنا، وصدروا النظريات العنصرية المعادية للعرب بأنهم «إرهابيون»، و«غير مؤهلين للديمقراطية»، وأنهم «بحاجة إلى مستبد ليحكمهم». يقول يانس هانس، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تورنتو، كندا: «فكرة أن العرب غير صالحين لتقرير مصيرهم بأنفسهم تعود إلى أصول نظام الدولة العربي بعد الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، تم صرف النظر عن الطموحات العربية بالاستقلال في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، من جانب الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين، وتخلى الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عن هذه الطموحات على نحو رخيص، إن إطلالة هذا المفهوم العنصري البشع برأسه مرة أخرى كقناع لحجب الأزمة والحفاظ على الاستقرار، خلال هذه اللحظة العظيمة للإنسانية المشتركة، يعطي (ساعة الصفر) في القاهرة بعدا أكثر عالمية من مجرد رحيل مبارك. هي ليست أقل من دعوة إلى تفكيك البعد الكولونيالي للديمقراطية» (جريدة «الأخبار»، الخميس 17 فبراير «شباط» 2011). هذا بالضبط هو أهمية ما يحدث اليوم في عالمنا العربي، إنه سقوط البعد الاستعماري للنظام الرسمي الذي يتجاهل ما يجري في فلسطين من قتل وارتكاب جرائم بشعة ضد الإنسانية في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الأميركية تخط الفيتو رقم «39» ضد العرب للحيلولة دون مجرد إدانة للاستيطان الإسرائيلي الذي يمثل العار الأبدي الذي تحمله «الديمقراطيات» الغربية على مدى التاريخ.

إن دماء الشهداء الأطفال والنساء والرجال في فلسطين هي التي تزيد من شعلة الحرية التي ترفعها هذه الثورات ضد ظلم الطغاة المحليين اتقادا، والغضب الشعبي اليوم موجه ضد أنظمة ما كان لها أن تعيش كل هذه العقود لولا الدعم الغربي اللامحدود لها في تدريب أجهزة القمع على اضطهاد شعوبها، وفي زرع القواعد العسكرية المهينة لكرامة العرب.

وها هو الشباب العربي في مختلف أقطاره يدفع الدماء والضحايا لتحرير نفسه من القمع والفساد اللذين تلازما مع هيمنة النفوذ الأميركي. فالعرب لا يعرفون من هذا النفوذ سوى وحشية حروبه، ومجازر احتلاله، وإذلاله لكرامة العرب، ولا يعرفون من هذا النفوذ سوى دعمه للاستيطان اليهودي، والاضطهاد الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، وحرمانه طوال أكثر من ستين عاما من الحرية ومنع قيام دولته الوطنية. ولا يعرف العرب من النفوذ الأميركي سوى «صداقة» الولايات المتحدة لأنظمة معروفة بخضوعها المذل لإملاءات واشنطن ضد شعوبها دعما لجرائم إسرائيل وحروبها، ولا يعرف العرب من هذا النفوذ سوى النفاق الصارخ، وازدواجية المعايير: فالشعوب الغربية تتمتع بالديمقراطية والازدهار فيما النفوذ الأميركي يحرم شعوبنا من نسيم الحرية بقوة السلاح والقمع، ويفرضون الفقر على شعوبنا بنهب ثرواته، وتبييض أموال أصدقائهم من الطغاة الفاسدين، ويغضون النظر عن استخدام الجمال والحمير والرصاص الحي ضد شباب تواق للحرية فقط كي يستبقوا في الحكم من يسكت عن جرائم إسرائيل.

إن الفيتو الأميركي الأخير، مثل عشرات الفيتوات الأميركية الأخرى المعادية لحرية العرب، ساهمت في استمرار القمع الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، واستيطان أرضه، وتهجير الملايين منه ليعيشوا في مخيمات اللجوء منذ أكثر من ستة عقود مظلمة بالصمت الغربي على جرائم إسرائيل وتوسعها المتواصل على حساب العرب، ولن يكون هذا الفيتو الأخير، ما دامت الإرادة السياسية الأميركية تخضع للعقيدة الصهيونية لصالح دعم الاستبداد، والاضطهاد، والاستيطان، والعنصرية في الشرق الأوسط.

بالنسبة لمئات الملايين من الأجيال العربية، فإنها لم تسمع أو تر من الولايات المتحدة سوى هذا الفيتو اللعين موجها ضد حريتها، وملايين الشباب اليوم قد رأوا هم أيضا هذا الفيتو مسلطا على أبسط حقوق شعب فلسطين، ولن يروه غير إشهار للعداء الأميركي السافر لحرية العرب والمكافحين من أجلها، كما لن يروا في العداء الأميركي الصريح ضد القوى العربية المقاومة للاحتلال، والاستيطان، والاستبداد سوى حقيقته البشعة مهما تعالت أبواق الدعاية الغربية ضدها، ومهما صدرت من قرارات «دولية» هي من صنع الولايات المتحدة وعدائها لحرية العرب.

لقد بزغ فجر الديمقراطية العربية الذي تصنعه الجماهير العربية بدمائها، وأيديها، ورؤاها الخاصة بها، وقد كانت الجرائم الإسرائيلية، وحروبها ضد العرب جذوة الثورة التي أشعلت البعد المحلي لهذه الثورات. يجب ألا يتفاجأ الغرب حين يهتف مئات الملايين من العرب مستقبلا من محيطهم إلى خليجهم «الشعب يريد تطهير فلسطين من الاستيطان».

ماذا سيقول إليوت أبراهامز، وكوندوليزا رايس، وهيلاري كلينتون في تلك الساعة؟ هل سيدعون أيضا أن الدعم الأميركي للاحتلال والاستيطان هدفهما نجاح حل الدولتين؟

الشباب العربي يصنع اليوم قدره بيده وبدمائه، وهو يرفض الفتن العرقية، والطائفية، والقطرية التي يزرعها الأعداء، وهو عاكف على بناء مستقبل عربي زاهر سيفاجئ الذين ما زالوا يقبعون خلف قواهم البطشية الغاشمة.

هذا الشرق الأوسط الجديد ليس ما أرادته كوندوليزا رايس والمحافظون الجدد المعروفون بحبهم للحروب والتعذيب، والبطش بالعرب وسفك دمائهم، وبدعم مطلق لإسرائيل والاستيطان بل سيكون من صنع أبنائه، ولأجل مستقبل أبنائه فقط كي يكونوا أحرارا أعزاء.