الاعتراض المحترم والاستفتاء المأمول

TT

من حق الجيل الشاب في مصر أن يتباهى أمام العالم بأنه كان النموذج الواعي للاعتراض وأن صوته كان الصوت المسموع لأنه لا يتجنى وهو يطالب بالتغيير وإنما يستند في مطالبته إلى وقائع وحقائق.

لم يستوطن شبان وشابات مصر ميدان عاصمتهم بهدف إلحاق الأذى بالغير على نحو ما حدث زمن الاستيطان في ساحة الوسط التجاري في بيروت. وعندما غادروا فإنهم تولوا تنظيف المكان كنسا وشطفا ومن دون أن يتعفف هذا الشاب أو تلك الشابة عن القيام بذلك، في حين لم يفعل ذلك الذين شاركوا في الاستيطان البيروتي.

ولم يترك الشبان والشابات مجالا للأحزاب والتيارات لكي تخطف منهم موقفا اتخذوه ويتسم بالمنطق. كما أنهم حصروا المطالب بأهداف واقعية ومن دون أن يحرقوا أعلام دول أو صور حكام أو حتى إطلاق هتافات غير ذات مردود وعلى نحو ما حدث في بيروت.

كانوا في غاية الرقي في ما فعلوا وكانوا مجردين من أدوات العنف وكأنما هم بذلك يستحضرون أمثولات الاحتجاج السلمي الأبيض الذي مارسه المهاتما غاندي في الزمن الغابر فاستحق ذكره دائما بالخير. كما أنهم لم يحرقوا الدواليب ولم يقلبوا مستوعبات الزبالة ولم يرهبوا الغير فاستحقوا احترام المجتمع الدولي إلى جانب احترام إخوانهم أفراد الجيش وحرصهم على تأمين السلامة لهم. هذا الأمر لم يحظ به الذين نصبوا خيامهم بضعة أشهر في «ميدان التحرير البيروتي».. ساحة رياض الصلح.

ما أراده هذا الجيل الشاب في مصر تحققت الخطوة الأولى منه وهي أن الباب لبداية عهد جديد فتح على مصراعيه.

وما أراده هذا الجيل الشاب في مصر كان رسالة واضحة المعاني مفادها أن التغيير ممكن بغير السلاح بدليل أن جهازا علميا لا يتجاوز ثمنه وجبة طعام لمدة أسبوع في استطاعته هز مداميك أي نظام لا يتفهم مصالح الناس ومطالبهم. كما أن التغيير ممكن في حال كان الجيل المطالب بالتغيير مزودا بأخلاقيات عالية وإيمان بالوطن، وهذا لمسناه بالنسبة إلى شبان وشابات مصر الذين لم يهتفوا سوى من أجل مصر ولم يمجدوا (كما حدث في لبنان) حاكما خارج مصر وهم يطالبون بتنحي من يحكم مصر. كما أن هؤلاء لم يرفعوا صور حكام غرباء عن بلدهم (كما فعل لبنانيون). وتحت شعار «نحن نحب مصر» تحركوا ثم رابطوا ثم صمدوا ثم قطفوا ثم انصرفوا بعد ما نظفوا وبذلك حق عليهم القول: كانوا قدوة في السلوك وكانوا بررة في حق الوطن. يا ليت حدث ذلك في لبنان.

وما فعله هؤلاء نتمنى أن يفعله الذين ينشدون الاعتراض والتغيير في كل دولة عربية، فلا نزول من أجل الاعتراض بثياب الميدان على نحو التعبير المألوف، أو حتى بالثياب السوداء المفزعة. ولا نزول من أجل الترويع وإنما من أجل إطلاق عبارة «اللهم إني قد بلغت.. اللهم فاشهد». وعندما يتم الإطلاق على هذا النحو، فإن خاصية الاحترام فيه لها فعل قوة الصخر، فضلا عن قوة السلاح.

تبقى أمنية مستوحاة من الفوز المبين للاعتراض الشبابي المصري نتمناها على المؤسسة العسكرية المصرية الشجاعة التي بدافع الولاء لمصر فقط لا تنقسم عند حدوث الأزمات كما هي المخاوف في لبنان إزاء مؤسسة الجيش في زمن الصراع الطائفي، وأما إذا كان لا بد من تفضيل جانب على آخر، فإنه يكون لما يصون الوطن. وهذا كان سلوك المؤسسة العسكرية المصرية طوال المحنة التي عاشتها المحروسة.

والأمنية التي نشير إليها هي النظر في أمر معاهدة «كامب ديفيد» ليس بغرض إلغائها لمجرد الإلغاء الاستعراضي للمزايدة، ولا أيضا من أجل العودة إلى الحرب، وإنما استعمال ورقة هذه المعاهدة لدعم مبادرة السلام العربية التي كانت خلاصة أفكار للملك عبد الله بن عبد العزيز الذي ندعو له بالعودة والسلامة من فترة النقاهة واستكمال العلاج الطبيعي في المغرب بعد العملية الجراحية التي أجريت له في نيويورك. ومن حق مصر الحديثة - إن هي تريد الاستناد إلى حيثية قانونية في هذا الشأن - القول ما معناه إن المعاهدة أبرمت على يدي رئيس جرى اغتياله (أي الرئيس أنور السادات) وبقيت ثلاثين سنة في عهد رئيس وريث (أي الرئيس حسني مبارك) الذي كان عهده امتدادا لعهد سلفه. أما وقد انتهى هذا العهد بكل مؤسساته ليبدأ عهد جديد، فإن المعاهدة تصبح موضع إلغاء في الحد الأقصى وإعادة نظر في الحد الأدنى. وإعادة النظر ضرورية، كون الجزء الأكبر من متاعب مصر الاقتصادية والاجتماعية - فضلا عن القلق الوطني والاستهانة بمصر من كل صوب - كانت في ظل هذه المعاهدة أو بسببها، لأن إسرائيل بدل أن تستكين وتجنح إلى السلام، وبذلك تستقر المنطقة وتزدهر الأعمال، ازدادت شراسة وعدوانا، واضعة الدولة الأهم والأكبر - أو فلنقل الدولة الأم مصر - في وضع المكبل اليدين، لا قدرة لها على ردع العدوان ولا حق لها بالمساندة العملية العسكرية، التزاما بتلك المعاهدة وبجزءيها المعلن والسري.

إننا نتفهم قول المتحدث باسم «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» في البيان رقم 4 الذي أذيع السبت الماضي 12 فبراير (شباط) 2011، وتنص الفقرة الخامسة منه على «التزام جمهورية مصر العربية بكافة الالتزامات والمعاهدات الإقليمية والدولية». وهذا التزام طبيعي لأن عهد التغيير لم يبدأ رسميا بعد ولن يتم ذلك إلا بعد إجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية. لكن الذي نقصده هو أن يتم مع بداية العهد الجديد الدعوة إلى استفتاء على معاهدة «كامب ديفيد»: تبقى كما هي؟ تلغى جملة وتفصيلا؟ تعدل؟ يرتبط بقاؤها بإعلان إسرائيل القبول بـ«مبادرة السلام العربية» بما يعني قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس؟

أما في حال عدم الأخذ بمبدأ الاستفتاء، فإن جيلا لاحقا من شباب مصر سيولد وسيكون حاسما في موضوع هذه المعاهدة. وعلى هذا الأساس، فمن واجب المجتمع الدولي - وبالذات أميركا ودول أوروبا - الضغط على إسرائيل من أجل أن تتدارك تداعيات استمرارها دولة معتدية وفاجرة، وليس كما سمعنا مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل التي لا ترى سوى إبداء الخشية على أمن إسرائيل من رياح التغيير العربية المرشحة لأن تتحول إلى إعصارات. ومن يعش ير ما يمكن أن يؤسس له التغيير الذي حدث في مصر عام 2011 بعد التحرير الذي سبق أن حدث عام 1973.

وللحديث بقية عن هذين المستحيلين الممكنين عندما تتوافر الإرادة ويأخذ الإيمان طريقه إلى النفوس.. ويستقر.