عالم 1954

TT

قبل قرن تماما بدا أن العالم مستقر في نفسه ولن يتغير.. عاصمة مالية واحدة هي لندن، وسلطة سياسية واحدة هي أوروبا. معظم البلدان الأخرى كانت ضمن هذين النظامين اللذين يملكان الذهب والمدفع البحري والطاقة الصناعية والأراضي الزراعية. لكن مظهر العالم الخارجي مخادع دوما؛ فما لبثت أن قامت عام 1914 حرب كونية تغيرت في نهايتها الخريطة السياسية والمالية معا. وظهر الاتحاد السوفياتي، وانتقلت القوة المالية والسياسية إلى نيويورك وواشنطن، وتحولت البرتغال، الرائدة الاستعمارية، إلى دولة صغيرة، وإسبانيا إلى دولة مريضة.

بعد الحرب العالمية الثانية تغير العالم مرة أخرى.. انتهت أوروبا كقوة عسكرية، وتداعى الاستعمار في كل مكان، وازداد عدد العواصم المالية.. واعتقدنا أن انقسام الكرة بين المعسكر الأميركي والمعسكر السوفياتي صار الشكل النهائي لوجه الكوكب. لكن الدنيا انقلبت من جديد في نهاية الثمانينات عندما انهارت الشيوعية من تلقاء نفسها وراحت أوروبا الشرقية تنضم إلى السوق الأوروبية الرأسمالية، وتفككت يوغوسلافيا، وانضمت الصين والهند إلى العالم الصناعي.

بدأت رياح التغيير في العالم العربي من مصر عام 1952 مع وصول «الضباط الأحرار». لكن عام 1954 نزلت إلى شوارع القاهرة مظاهرات تهتف «لتسقط الحرية.. ليسقط العلم». وساعدت ثورة 23 يوليو (تموز) على خروج الاستعمار من الجزائر وتونس والمغرب وعدن، لكنها انصرفت إلى العمل على زعزعة الأنظمة في كل مكان، من دون دساتير وحريات وقضاء حقيقي. وانتشر في العالم العربي حكم الحزب الواحد، والرجل الواحد، والاستفتاء الواحد، والمرشح الوحيد. وعندما خطر لأيمن نور خوض معركة الرئاسة، أودع السجن بتهم مزيفة بوضوح. وكان ياسر عرفات الأكثر ذكاء في هذا الباب، فهو لم يسمح فقط لمنافس يخوض المعركة، بل كان المنافس سيدة مجهولة.

لقد بدأ في تونس بن علي الانقلاب العربي على نظام 1954. والدستور الذي يعده طارق البشري في مصر لا يلعن العلم ولا الحرية ولا يعطي السلطة والحكم للعسكريين. والقاسم المشترك بين الشباب الذين نزلوا إلى شوارع تونس ومصر والجزائر والخرطوم واليمن، أنهم هتفوا جميعا ضد أنظمة عسكرية ترتدي زيا مدنيا. لم يهتفوا ضد العسكريين، بل تعانقوا معهم في الساحات، لكنهن هتفوا ضد العقلية الفاشية التي أطلقت الهجانة في ميدان التحرير، أو التي أطلقت الرصاص الهمجي على أعناق ورؤوس المتظاهرين في بنغازي. عالم 1954 يستبدل في الساحات. كان أحرى به أن يقرأ عقول الناس وقلوبها قبل أن ينزلوا وأن ينزل.