مصر.. بداية جديدة من خلال المدن

TT

ربما يكون من السهل تأمل الصور التي تأتي من القاهرة خلال الأسابيع القليلة الماضية، والنظر إلى مصر باعتبارها مجتمعا حضريا للغاية، لكن ربما لا يكون هذا صحيحا.

عندما تولى الرئيس حسني مبارك السلطة عام 1981، كانت مصر أكثر حضرية من باقي دول العالم، حيث كان يسكن نحو 44 في المائة من السكان في المدن. على الجانب الآخر لم تكن نسبة سكان المدن في شرق آسيا تتعدى 26 في المائة. ومنذ ذلك الحين اتسعت رقعة مدن قارة آسيا سريعا؛ مما جذب ملايين الفلاحين الذين يبحثون عن حياة أفضل كثيرا ما كانوا يجدونها. ويعيش نحو 50 في المائة من سكان شرق آسيا حاليا في المدن. ماذا إذن عن الصورة في مصر؟ إنها الدولة الكبيرة الوحيدة التي أصبحت أقل حضرية خلال الثلاثين عاما الماضية، طبقا للبنك الدولي، حيث يعيش نحو 43 في المائة من المصريين اليوم في المدن.

يفسر هذا الركود ما تعانيه مصر من ركود أكبر. رغم صعوبة حياة المدينة في الدول الفقيرة، فإنها تعد تربة خصبة للنمو الاقتصادي؛ حيث يمكن القيام بكل شيء تقريبا على نحو أكثر فاعلية في مدينة تدار جيدا من أعمال سباكة إلى وسائل مواصلات أو توليد أفكار وأعمال جديدة. يقول بول رومر، خبير اقتصاد ونمو: «الوجود بالقرب من الآخرين ينمي ذكاءنا».

صدر لإدوارد غلاسر، أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، الذي يشارك في التدوين بمدونة «تايمز إكينومكس بلوغ»، حديثا كتاب بعنوان «انتصار مدينة» يؤكد فيه أن المدن هي أعظم الاختراعات البشرية، ويوضح في كتابه أن الدول التي تصبح أكثر تمدنا تتجه نحو المزيد من الإنتاجية. تأثير ذلك يكون أكبر في الدول الفقيرة عنه في الدول الغنية.

لكن مصر أسيرة بنية جغرافية قديمة. مثل الكثير من الأنظمة الديكتاتورية، تسيطر عليها عاصمة كبيرة؛ حيث يحظى الناس والأعمال بدعم الحكومة. لم تقترب عاصمة مصر من العاصمة الصينية، شينزين، أو العاصمة الهندية، بانغالور، أو عاصمة كوريا الجنوبية، بوسان، أو عاصمة الولايات المتحدة سابقا، شيكاغو، التي كانت أماكن ازدهار الآلاف من الشركات الجديدة.

أصبحت هذه المدن حضّانات عملاقة للنمو الاقتصادي؛ حيث كانت محلا لتعلم الناس التعاون والمنافسة واستغلال مهاراتهم، وكذلك تعلم مهارات جديدة. مع الأسف لا توجد وصفة سحرية لتحقيق النمو الاقتصادي، فالاستراتيجيات التي تجدي نفعا في دولة ما قد تبوء بالفشل في دولة أخرى، لكن الدرس الاقتصادي الذي قدمته العقود القليلة الماضية للحكومة المقبلة في مصر هو أن الدول تزيد من فرص النجاح بأقصى قدر ممكن من خلال تعليم العاملين بها مهارات جديدة وحثهم على المنافسة، وهو ما لم تفعله مصر والكثير من الدول العربية.

غياب تنمية المهارات أمر واضح، فمن بين 48 دولة شاركت في اختبار الرياضيات المعياري للمستوى الثامن، حصلت قطر على المركز الأخير. ومن الدول التي حصلت على مراتب متأخرة، من الأدنى إلى الأعلى، المملكة العربية السعودية، والكويت، وفلسطين، وعمان، والجزائر، ومصر، وسورية، بينما حصلت الولايات المتحدة على المركز التاسع.

وحصدت دول آسيوية أول خمسة مراكز، ومنها: تايوان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة. ليس تقدم هذه الدول عن مصر وباقي الدول العربية بخطى أسرع منذ فترة الثمانينات من قبيل المصادفة.

ويقع على نفس القدر من الأهمية نقص المهارات، لكن المشكلة هي أن الكثير من المصريين يستغلون مهاراتهم في ظل اقتصاد متصلب. وقد اكتشف ثلاثة من الباحثين هم: مايكل كليمنز، ولانت بريتشيت، وكلوديا مونتينغرو، طريقة جديدة لقياس مدى كفاءة استخدام الدول المختلفة للعمال بها. وعقد الباحثون الثلاثة مقارنة بين أجور المهاجرين إلى الولايات المتحدة وأجور العمال من أهل تلك البلاد.

يمكن أن يتوقع شاب مصري حاصل على الشهادة الثانوية يبلغ من العمر 35 عاما ينتقل للإقامة في الولايات المتحدة مستوى معيشة أكبر بمقدار 8 مرات، على حد قول الباحثين. بينما يحصل المهاجرون من اليمن ونيجيريا على أكبر من ذلك. في واقع الأمر تمثل تلك الدولتان نموذجا للهوة الشاسعة بين ما يستطيع العمال من أهل البلد إنتاجه في بيئة مختلفة وما ينتجونه بالفعل في موطنهم.

لا عجب إذن أن يخبر 19 في المائة من المصريين مؤسسة «غالاب» (قبل الاحتجاجات بفترة) أنهم لن يترددوا في الرحيل إلى أي بلد آخر إذا أتيحت لهم الفرصة. ويقول كليمنز إن نسبة المصريين الذين يتقدمون للحصول على إقامة في الولايات المتحدة في «اليانصيب» السنوي تبلغ 146 لكل تصريح. لذا؛ من المهام التي تواجه من سيخلفون مبارك؛ توفير أماكن داخل مصر لينتقل إليها المصريون، مثلما تدفق العمال الهنود إلى بانغالور والعمال البرازيليون إلى ريو دي جانيرو. وينبغي أن تضم هذه الأماكن شركات مصرية أقل اعتمادا على الدولة وأكثر انفتاحا على المنافسة العالمية. كذلك ينبغي أن تمثل هذه الأماكن نقاط انطلاق للبحث العلمي الذي تراجع كثيرا في مصر، بل وأن تحتضن تلك الأماكن إبداعا يخلق فرص عمل؛ مثل ذلك الذي تجلى في إسقاط الديكتاتور.

المكان المرشح الأول هو القاهرة؛ نظرا لكل ما تتمتع به من مميزات. فحتى تحت حكم نظام مبارك، اتجه الاقتصاد في القاهرة إلى اقتصاد السوق بخطى متباطئة. كثيرا ما تنجب العواصم مدنا أخرى مثل زونغ غوان كان، مدينة التكنولوجيا في بكين. لكن الجيش المصري يبسط سيطرته على القاهرة، خصوصا خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. وبحسب ملحوظات سان فرانسيسكو المرتبة ترتيبا زمنيا: «يمتلك الجيش شركات ويبيع كل شيء بدءا من مطفآت الحريق والمعدات الطبية، وصولا إلى أجهزة الكومبيوتر المحمول والأجهزة التلفزيونية وماكينات الخياطة والثلاجات والأواني و(الطاسات) وأسطوانات غاز البيوتان وزجاجات المياه المعدنية وزيت الزيتون». ربما لا يريد الجيش التخلي عن هذه الامتيازات الاقتصادية.

ستحتاج مصر، التي ربما تمثل نموذجا يُحتذى به في العالم العربي، أن يكون لها نموذج خاص بها يختلف عن مدينتي بانغالور وشينزين. تستطيع هذه المدينة النمو من الصفر مثلما فعلت مدينة شينزين، كذلك يمكنها أن تصنع تاريخا لا يقل ثراء عن تاريخ مدينة الإسكندرية التي تصادف أنها ثاني أكبر مدينة في مصر. بغض النظر عن التفاصيل، المؤكد أن مصر الأكثر حضرية ستكون أكثر رخاء.

* خدمة «نيويورك تايمز»