التغيير خارج السيطرة

TT

سيرة التاريخ تقول: إن التغيير من سنة الحياة. تغييرات على الرغم من أنها من صنع الإنسان، هي أيضا مثل القدر، كالبراكين والزلازل، لا راد لها.

ولأن طموح التغيير غريزة ملازمة للإنسان، فإنه يبتكر وسائل التغيير. وقد مكنت آلات الحرب الجديدة قيصر روما من حكم العالم بالقوة، ودفعت عقيدة المحاربين المسلمين إلى حكم العالم على صهوات جيادهم، وأطلقت عزيمة البحارة الإنجليز من جزيرتهم الصغيرة مكنوناتهم ليبنوا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس على متن أساطيلهم البحرية الحديثة.

رغبة التغيير دائما مكبوتة من دون وسائل تفجرها، فقد انهارت ممالك وقامت أخرى بعد اكتشاف البارود قبل قرن ونصف القرن، كما توقف العالم عن التغيير خمسين عاما عقب تفجير قنبلتي هيروشيما وناغازاكي الذي خط الحدود وقسم العالم إلى معسكرين وكل ذلك بسلاح الخوف؛ حيث صار الردع سلاحا بذاته منع التغيير. واليوم نحن على متن سفينة تقودها الرياح في عرض المحيط من دون أن نعرف في أي اتجاه تبحر أو على أي يابسة ترسو.

وما نشهده الآن هو جزء من حركة التاريخ الطبيعية؛ حيث إن المنطقة عاشت حالة ركود طويلة كان من المؤكد أن تنفجر في لحظة غير محسوبة، ربما كانت تنتظر أن توقظها صرخة بائع جوال (البوعزيزي) في مدينة مجهولة أحرق نفسه احتجاجا لتجد صداها في كل مكان، لكن صرخة البوعزيزي من دون تقنية التواصل الحديثة كان عليها أن تنتظر خمسين عاما أخرى.

وإذا كانت رغبة التغيير ودوافعه موجودة على الدوام، فلماذا الآن؟ وكيف؟ الآن لأن كل المجتمع وعوالمه تتغير أيضا وبشكل أسرع من قدرة المؤسسات الرسمية على اللحاق بها. حتى أكثر حكومات العالم تقدما في التقنية مثل الولايات المتحدة تعترف بعجزها عن مجاراة تطور المعلومات، فالـ«إف بي آي» اعترفت الأسبوع الماضي بأنها عاجزة عن ملاحقة الانتشار المعلوماتي في ساحة الجريمة.

في أيدي الشباب أصبح سلاح أمضى من كل آلات الحرب الإلكترونية والتقليدية. أجهزة الهواتف وبرامج الدردشة وخدمات الرسائل تدار عبرها نقاشات ويتم توجيه المجتمع بمعلومات تتوالد مثل الميكروبات إلى ملايين الرسائل، إلى ملايين الناس التي تخرج إلى الشوارع مثل السيل الهادر.

هذه هي الوسائل، لكن ماذا عن الرسائل؟ كما تحدثت في مقال سابق فنحن نعيش نتيجة الفوارق الزمنية والتقنية والعمرية، حيث يحكم الثلاثة في المائة سبعين في المائة من السكان، وهذه فوارق عمرية وثقافية مقدر لها أن تنهار.

ماذا عن الذين يحاولون الاستنتاج أن الرئيس التونسي بن علي سقط لأنه تنازل مبكرا، أو الرئيس المصري مبارك سقط لأنه تنازل متأخرا؟ هؤلاء ينظرون إلى اللحظات الأخيرة من المباراة، التي ربما كان أداؤه فيها لم يساعده على تحقيق خاتمة أفضل. اللحظات الأخيرة مثل لحظات المباريات المصيرية؛ حيث يصبح الحسم خلال ضربات الجزاء، لا تكفي المهارة فيها بل تحتاج أيضا إلى حظ عظيم، لكن الفريق القادر هو الذي يحسم النتيجة من دون الحاجة إلى انتظار وقت ضربات الجزاء.

[email protected]