أمن الخليج خط أحمر

TT

الانفجارات الاجتماعية في بلدان متعددة الأجناس، أو الطوائف والمذاهب، تأخذ فورا بعدا فئويا، وليس شعبيا. البحرين ليست مصر أو تونس. في هذين البلدين الشقيقين، هناك انسجام اجتماعي. هو نتيجة لغياب الطائفية. والعرقية. وعصبية العشيرة والقبيلة.

مصر مجتمع مدني عريق ذوّب هذه الفوارق عبر ألوف السنين. وحتى الأقباط تعودوا تاريخيا الانصهار في الوحدة الوطنية، في كل انفجار. وتونس، إلى حد كبير، مجتمع المدينة. ومجتمعات المدن، دائما، بوتقة وطنية تصهر الروح القبلية أو العشيرية.

كأي مجتمع خليجي، أو مشرقي، ففي البحرين مجتمع طائفي. مجتمع عربي مسلم. مجتمع موزع على طائفتين شديدتي التقارب في إسلامهما. شديدتي التباعد في المصلحة الاجتماعية، وفي الانتماء السياسي والمذهبي. وكأي مجتمع حيوي، تبدو الأقلية السنية البحرينية أكثر نشاطا وفاعلية. وبالتالي، أكثر تقدما في الوعي، وفي المستوى المعيشي.

في المقابل، كانت الغالبية الشيعية (60 في المائة من السكان) أكثر وعيا بمرارة الحرمان. ولأنها غالبية طائفية، فقد كانت أكثر جرأة وتماديا من الأقليات الشيعية في المجتمعات الخليجية الأخرى، في المطلب. في التمرد. بل وفي العزلة عن المشاركة. وفي ضعف ثقافة العمل الشاق أو الجاد، لدى شقيقتها السنية. وفي ضعف الإقبال على التعليم المدرسي، ومعاهد التدريب المهني.

ما زلت مؤمنا بأن ما جرى ويجري في المجتمعات العربية هو انتفاضات. انفجارات ناجمة عن تذمر، من انهيار المستوى المعيشي، وتكلس وجمود النظام العربي. أكرر. الثورة أمر آخر مختلف تماما. الثورة تخطيط. قيادة. عنف. اقتتال. فلسفة ذات رؤى وأفكار تغييرية. إصلاحية. أو رجعية.

بحكم كونها جزيرة مندفعة في المياه، على مفارق الاتصال التجاري بين البحر والبر، فقد عرفت البحرين، قبل شقيقاتها الخليجيات نشاطا اقتصاديا، ووعيا اجتماعيا وسياسيا، تمثل في عمق التشكيل النقابي. وفي تراث النضال السلمي. وعلى الرغم من شح الموارد النفطية، فقد تشكلت عبر السنين طبقة وسطى غالبيتها سنية، تنعم بتقديمات حكومية كثيرة، الأمر الذي جعلها قاعدة شعبية لنظام آل خليفة السني الوراثي.

في البحرين، كانت العدوى بالانتفاضة المصرية/التونسية مغلفة بسلبياتها الفئوية: طائفيتها المذهبية التي حالت دون أن تكون شعبية. فالطائفة السنية لم تنضم إليها. بل أعلنت تأييدها للملك وللنظام. ثم سيطرة رجال الدين الشيعة، على رجال الإنترنت الذين قاد أمثالهم انتفاضة تونس ومصر، مما جعل الانتفاضة البحرينية تتسم بالغلو الطائفي، في المطالبة بإسقاط النظام. ثم في سحب نواب الطائفة من البرلمان المفروض أن يكون غرفة الحوار السلمي. والنزول إلى الشارع، مرفقا بشتائم ولافتات مهينة التي تندرج في إطار العنف.

كل ذلك في كفة. وفي كفة أخرى، التحريض الإيراني الذي لا يحتاج إلى أدلة، بحكم «التواصل» بين رجال الدين في البحرين، ومراجعهم الدينية والرسمية في إيران، على الرغم من وجود تيار شبابي يستلهم مرجعية على السيستاني المقيم في النجف، والمعروف برفضه للحكم الثيوقراطي (حكم رجال الدين).

في هذه الظروف المحلية والخارجية، اقترن العنف الطائفي فورا بالقمع الرسمي. الواقع أن النظام، منذ وراثة الملك حمد لوالده الراحل الشيخ عيسى، قدم سلسلة مبادرات انفتاحية. لكن عنف الرفض الطائفي لها حال دون الإسراع بتنفيذها. ولم يكن الملك بحاجة إلى مجرد الشبهة في التحريض الإيراني. فلديه سلسلة تصريحات رسمية إيرانية تحاكي التصريحات الشاهنشاهية القديمة المطالبة «باستعادة» البحرين.

لم يترك عرب الخليج البحرين وحدها. كان انعقاد مؤتمر وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في المنامة (عاصمة البحرين) بمثابة تأكيد لعروبة البحرين، كجزء لا يتجزأ عن الجسم الخليجي العربي، وبمثابة رفض حازم لانتفاضة طائفية. وللتحريض الإيراني.

لا شك أن هذا التحريض كان في مقدمة أغراضه النيل من استقرار وأمن المملكة السعودية التي ترتبط بعلاقة أخوية حميمة مع البحرين انسجاما مع أهداف الاختراق الإيراني للمشرق العربي، المجاور للخليج.

هذا الاختراق الذي حقق نجاحا يذكّر باجتذاب سورية، وتمكين حزب الله المدعوم والممول إيرانيا، من فرض «دكتاتورية الطائفة» على «ديمقراطية الطوائف» في لبنان، باسم سلاح «المقاومة» الذي تحول، بعد تحييده دوليا، إلى سلاح يهدد الكيان وعروبة لبنان.

لا شك أيضا أن السعودية شديدة الحساسية إزاء كل ما تتعرض له عروبة البحرين من أذى. بل باتت السعودية تشعر، بعد «تشييع» الجدار الشرقي للأمة العربية (العراق). وفي ظروف انشغال مصر بأزمة تغيير النظام، وبعد قلب حزب الله لحكومة التوافق الوطني في لبنان، بأنها تتحمل مسؤولية عبء قومي وديني كبير، في المحافظة على استقرار الخليج، وفي مناوأة الاختراق الإيراني للمشرق العربي.

ركوب إيران الموجة الانتفاضية العربية تسميه أميركا «نفاقا» سياسيا. لكن ماذا عن ركوب أميركا الموجة ذاتها؟! أقل ما يمكن أن يقال فيها، أنها مداهنة لاهثة وراء انتفاضات شعبية، وصلت إلى حد منافقة انتفاضة طائفية في البحرين التي تؤوي قيادة الأسطول الخامس الأميركي العامل في الخليج والمحيط الهندي!

وهكذا، فتكتيك أميركا في ركوب الموجة، يتناقض مع استراتيجية أميركا في المحافظة على تدفق النفط الخليجي نحو أسواق العالم. وها هو الرئيس أوباما يضيف إلى حروب سلفه بوش في الديار الإسلامية (أفغانستان. باكستان. العراق) بعدا «انتفاضيا»، ينم حقا عن عدم معرفة بالركائز التي يقوم عليها الاستقرار الخليجي، وفي مقدمتها الهوية العربية، في ثنائيتها الثقافية القومية والدينية.

محنة العرب هي من محنة الإدارة الأميركية المنقسمة على نفسها. الرئيس باراك حسين أوباما يدشن حربا جديدة. ليس ضد الإسلام باسم مكافحة الإرهاب فحسب، وإنما ضد الاستقرار، تحت أعلام الديمقراطية.

المحنة ستتحول إلى كارثة عربية، إذا ما وصلت سذاجة البراغماتية الأميركية، إلى هز استقرار الخليج الذي يؤوي نحو أربعة أو خمسة ملايين مقيم عربي. هؤلاء ساهموا، باستمرار، على مدى خمسين عاما، بمدخرتهم المحولة التي تقدر بعشرات مليارات الدولارات الخليجية، في تنمية اقتصاد مجتمعاتهم، وفي توسيع رقعة الطبقة الوسطى التي ستكون الأساس في الاستقرار الاجتماعي والثقافي في العالم العربي.

وبعد، لعل الحل في البحرين هو في اجتذاب الرساميل الخليجية والدولية، لتمويل تنمية أوسع وأسرع، هدفها «تعريض» رقعة الطبقة الوسطى، لتشمل الطائفة الشيعية، كذلك المضي في الإصلاحات السياسية الموعودة، بما فيها مواصلة تجنيس الأسر العربية المقيمة والعاملة في البحرين منذ عشرات السنين. ولها أسوة في تجنيس الأسر الإيرانية المهاجرة سرا وعلنا أيضا منذ عشرات السنين، وتساهم في إعلاء الصوت الطائفي ضد تجنيس العرب!