حول الاستثناء الخليجي؟

TT

الخريطة العربية اليوم ملتهبة، تمور بالاضطراب، والمستقبل الغامض، هناك حركات تقويض للقائم من الأنظمة بسبب فسادها واستبدادها، حسب الخطوط العريضة لعناوين الشارع العربي اليوم، نجحت هذه الاحتجاجات أو الانتفاضات في مسعاها في بعض الدول (مصر وتونس وربما ليبيا) فقوضت النظام القائم، وهي تحاول هذا الأمر في دول أخرى مثل اليمن أو الأردن أو الجزائر أو حتى البحرين.

خريطة مشتعلة، خريطة من ورق يابس مؤهل لنقل النار إلى أي مكان آخر من هذه الخريطة، أو على الأقل عبور الدخان الخانق والقتام الأسود إلى الأجزاء التي لم تحترق من هذه الخريطة.

هناك زاوية من هذه الخريطة ما زالت تنعم بالاستقرار والهدوء، متعايشة مع أصوات ناقدة ومعارضة من الداخل، أعني دول الخليج، خصوصا أننا «نكاد» نشهد عبور البحرين من عنق الزجاجة بعدما أطلق ولي عهدها مبادرة الحوار ودارت عجلة الحوار فعلا، ويشد الانتباه كلام صادر من وكالة المخابرات المركزية الأميركية هذه الأيام أن الأوضاع في البحرين متجهة إلى السيطرة.

هل الاستثناء الخليجي هنا هو من قبيل الصدفة، أم نتيجة قرار دولي، أم نتيجة الرخاء الاقتصادي، أم نتيجة طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة التي تقوم بالدرجة الأولى على نظام وراثي تصالحي غير دموي وقديم الرسوخ في نسيج المجتمع، بمعنى أن هناك رصيدا ثريا من الذاكرة التاريخية المشتركة، والذاكرة المشتركة عنصر رئيس في بناء الهويات.

من البدهي أن ينتقل الجدل بعدما جرى في الدول العربية إلى أروقة النقاش الخليجي، بصورة سؤال مكثف: وماذا عنا نحن؟!

هو سؤال صادم ومباشر ولم يعد محرما أو محظورا، خصوصا أن النقاشات والتدوينات والتعليقات أو التغريدات في «تويتر» أو الجدل في «فيسبوك» لم توفر سؤالا من الأسئلة، وكلها تدور في فلك هذا السؤال: وماذا عنا نحن؟!

كثير من الشباب أو من لديهم تصور آخر لطبيعة الدولة الخليجية بالذات في الدول غير البرلمانية النيابية، يناقشون ذلك بحرارة وسخونة نابعة من سخونة ما يجري في مصر وتونس واليمن وليبيا، لكن في غمرة هذه السخونة تذوب بعض المعايير الفارقة بين دولة ودولة ومجتمع ومجتمع وتجربة وتجربة، وحينما يهدأ ضجيج الاحتجاج وصخب الغضب من الجمود أو الغموض المستقبلي تجد الكثير من الأصوات، تفكر قليلا، هل نحن نسخة من أي نظام آخر، بل هل الأنظمة الخليجية نسخة من بعضها، هل يوجد شيء يشبه شيئا آخر تماما؟!

احتياجات البحرين وقضاياها حتما ليست مثل الحال في قطر أو السعودية أو في الكويت مثلا، في الكويت هناك مشكلات من نوع ثقيل تفرض نفسها على الناس في البلد، رغم وجود نظام برلماني لا يزايد أو يشكك أحد فيه، خصوصا أن النواب المعارضين استجوبوا وطرحوا الثقة في رئيس الحكومة نفسه، وهو حفيد المؤسس مبارك الكبير، ومع ذلك فهذا البلد هبت عليه الرياح الساخنة جراء الأعاصير العربية.

تظل مشكلات الكويت وصراعات جماعاتها الاجتماعية المعروفة قضية محدودة ويمكن إيجاد حلول لها قياسا بمشكلات دول خليجية أخرى أثقل حركة وأكثر سكانا وتعقيدا.

المشكلة أن الأحداث تتسارع من حولنا بمعدل دولة كل أسبوعين تسقط أو تهتز اهتزازا عنيفا، والبعض من حولنا لا يملك القدرة على الحياد النفسي أو التفرج، وتأخذه الموجة من حيث لا يدري، كمن هو واقف على جانب الطريق فتمر به جموع بشرية كاسحة ثم فجأة يجد نفسه وسط هذه الجموع لأن الرصيف ببساطة ضاق عليه واكتسحته الجماهير! هكذا هو الحال سواء بالنسبة للأفراد أو حتى للدول في الخليج العربي إزاء هذه التحولات الهائلة من حولنا.

أقول تحولات لأنها لم تصل بعد إلى محطتها النهائية، وهنا أفتح قوسا للقول إنه من الغريب أن كثيرا من المعلقين العرب أو المتحدثين الفضائيين، وغيرهم، جزموا بمستقبل مصر ونظامها السياسي وجزموا بطبيعة الثورة ومحتواها الفكري والسياسي ومزاجها الآيديولوجي وجزموا بخلوها من عيوب الثورات السابقة، وبأنها كلها ثورة شبابية نقية، في تسرع أو تملق مبكر لثورة لم تكتمل ملامحها بعد، ولم نتبين فيها سواد الليل من بياض النهار، بل وتحول مجرد النقاش حول طبيعة الثورة والثوار، فكرهم ومستقبلهم، وهل هناك تفسير لهذا الحضور القوي للإخوان بعد نجاح الثورة سواء في لجنة تعديل الدستور، أو استبداد القرضاوي بخطبة النصر بميدان التحرير التي لم نر فيها إلا صورة (مرشد الثورة المصرية)، كل هذه القضايا أصبح النقاش فيها عند أنصار الثورة من بعض الكتبة والمتحدثين كفرا بالله العظيم، وسببا لتلويث أي إنسان يتجرأ على طرح أي تساؤل غير عاطفي عن هذه الأحداث، وكأنه مطلوب فقط أن تصفق وتهتف وتستغفر آناء الليل وأطراف النهار..! لذلك فلم يكن من الغريب أن تصدر قوائم العار ولوائح الشرف في سلوك خطير، ووصلت موضة قوائم العار ولوائح الشرف إلى أناس خارج القطر المصري بحماسة تتجاوز ربما حماسة وائل غنيم أو حتى خالد يوسف الذي حذر قبل أيام من حملة مكارثية ضد الفنانين المصريين المختلفين.

أغلق القوس عند ذكر هذه المواقف الانفعالية، التي قد تكون مبررة وعابرة، وبل ومتفهمة بشرط أن تظل عابرة ومؤقتة وليست حالة ثورية دائمة أو فرصة لتصفية الحسابات لدى البعض من خلال امتطاء حصان المشاعر الثائرة.

نعود لما بدأنا به وهو الاستثناء الخليجي، وهل هو محصن باستمرار؟

يجادل البعض في الخليج بأنه لا يجوز أن تسارع دول الخليج إلى إجراء إصلاحات سريعة وشعبية حتى لا يفهم من هذا السلوك رسائل خاطئة بأن هذه الدول مذعورة أو تشك في مدى تجذر شرعية القبول بها، لكن في ظني أن هذا النوع من التفكير ضار، مع تقديري لأهمية التوازن في اتخاذ القرار. المعيار المهم في هذا الأمر، وبعيدا عن ضغط اللحظة أو مكابرة اللحظة أيضا، هو: هل هذه الدولة أو تلك من دول الخليج لديها مشكلة حقيقية في هذا الحقل أو ذاك (تعليم، صحة، إسكان، فساد، ترهل إداري، التنمية، إصلاح الحقل الديني، موضوع المرأة والأقليات، مفهوم المواطنة...الخ)؟

إذا كان الجواب بنعم، وهو كذلك بنسب متفاوتة، فإن واجب الدولة هو حل المشكلات وليس إهمالها أو تركها بحجة «البرستيج» والوقار.

دول الخليج مستقرة أكثر من أغلب الدول العربية، وشعوبها لم تُعرف بنزعات انقلابية ثورية، نعم هي تضغط وتطالب وتتذمر، وترفع الصوت الجهير بالاحتجاج، لكن دوما تظل هذه الأمور مسقوفة بالنظام القائم. والدليل أنه لم تحدث حركة انقلابية جذرية على النظام السياسي القائم منذ الأيام الخالية في جزيرة العرب وخليجها.

زد على ذلك - الاستقرار الشرعي - الرخاء المادي بسبب مداخيل النفط، لكن هذه الشرعية التي لا يجادل فيها قارئ عادي للتاريخ أو الواقع ليست شيئا لا يحتاج للرعاية والصيانة والتنمية، إنها كائن حي يحتفظ بنضارته وصحته كلما أخذ مزيدا من الرعاية والاهتمام والفحص الدوري المستمر... والعكس بالعكس.

بقي أمر يتعلق بسياسة دول الخليج الخارجية هذه المرة، مع إدراكنا للاستثناء القطري والخصوصية العمانية، لكن يظل السؤال قائما: ألا يوجد شعور حاد، الآن، بأن هناك حاجة ماسة لبناء سياسة خليجية موحدة وعاجلة تجاه التحولات الكبرى في الإقليم؟!

سبق طرح دعوات لعقد قمة خليجية تخصص فقط للمسألة اليمنية التي لم تكن وصلت لهذا الحد بعد، كاتب هذه السطور وغيره ممن طرحوا هذه الفكرة، ولكن لا مجيب ولا جواب! والآن أليست الحاجة ماسة لتحديد الموقف وتوحيد السياسة تجاه ما يجري من ثورات من المحيط إلى الخليج؟!

قال الشاعر العراقي «الخليجي» بدر شاكر السياب وهو يتفحص مياه الخليج:

أصيح بالخليج.. يا خليج

يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى

فيرجع الصدى

كأنه النشيج...

[email protected]