جذور الثورة الغابرة.. ما عادت في المتناول أيها الرئيس!

TT

عاد رئيس الحكومة «المستقالة» سعد الحريري إلى خطاب الجذور بعدما أدرك أن التسوية التي يقدمها له حزب الله وحلفاء الحزب وسورية لا يمكنه أن يتبناها. عاد بعدما شعر بأنها خريطة طريق انتحاره السياسي. ذلك أن ما تقدمه هذه التسوية عبارة عن التزامات أبرزها: التخلي عن المحكمة الخاصة بلبنان، عبر تقويض كل ما يربط الدولة اللبنانية بها، والتسليم بالمعادلة الأمنية العسكرية القائمة في البلد، وعدم المشاغبة أو السعي لتنفيذ بنود طاولة الحوار المتصلة بها وبالعلاقة اللبنانية – السورية.

هذه المطالب وسواها كانت تستدعي أيضا من الرئيس الحريري التسليم بنتائج سياسية تتصل بها، لتعديل تحالفاته السياسية وإعادة تنظيم دائرة المحيطين به بما يتلاءم مع هذا التحول ومقتضياته.

في المقابل يضمن الرئيس الحريري أن تبقى رئاسة الحكومة في عهدته، بقدر التزامه بمعايير تشكل، في جوهرها، انقلابا على كل الشعارات التي رفعتها قوى «14 آذار» تحت عنوان العبور إلى الدولة.

ربما أدرك الرئيس الحريري، كما فعل كل من حزب الله وسورية، أن لا قدرة له – فضلا عن امتناعه الطوعي – على الانخراط في هذه العملية. لذا كان حزب الله، وكذلك سورية، يستعدان لتأمين خيار بديل عن الحريري. كل ذلك بعدما ضمنت «المعارضة» السابقة أكثرية نيابية إلى جانبها، عبر انضمام النائب وليد جنبلاط إلى «المحور» الجديد، وغيره من المترددين من بعض أعضاء البرلمان، ممن كانوا متحالفين مع قوى «14 آذار».

لكن في خطاب العودة إلى الجذور، الذي اختار أن يطلقه في ذكرى استشهاد والده الرئيس رفيق الحريري، عبر الرئيس سعد الحريري عن رغبة جامحة لاستعادة مشهد ثورة الأرز 2005. وهي رغبة نجمت من جهة عن اقتناعه بفشل منطق التسوية بينه وبين قوى «8 آذار» وحلفائها الإقليميين، وعن ردة فعل حيال استبعاده التعسفي عن موقع رئاسة الحكومة رغم كونه رئيسا لأكبر كتلة في البرلمان، تضم أكثر من ثلثي النواب المسلمين السنة، من جهة ثانية.

وظهرت في هذا الخطاب مشاعر الخيبة والغدر المتجمعة في قلبه من تخلف الحلفاء وطعناتهم. طعنات في الظهر أدت إلى قلب المشهد النيابي، من دون أن نقلل من شأن الترهيب الأمني والعسكري الذي كان له، في رأي الحريري، الدور الأفعل في رسم المشهد السياسي الجديد.

ولعل جوهر ما ذهب إليه الخطاب هو توضيح وجهة نظر الحريري في أسباب ما سماه «سقوط السين - سين»، أي المساعي السورية – السعودية، خصوصا في الشأن المتصل بعقد مؤتمر مصالحة وطنية لبنانية في مدينة الرياض كتتويج لهذه التسوية، ومدخل لتنفيذ بنودها.

ولأن هذا المؤتمر لم يعقد، ولم يصدر أي موقف من قبل حزب الله أو أي مسؤول سوري بنفيه الاتفاق حوله، فإنه يذكر بالمؤتمر الذي كانت اقترحته القيادة السعودية لإنجاز مصالحة عراقية قبل أشهر، في محاولة لتجاوز عقبات تشكيل الحكومة العراقية ولم يعد خافيا أن القيادة الإيرانية لعبت دورا بارزا في منع حصوله، وسعت إلى إنجاز تفاهم مع الإدارة الأميركية لتشكيل الحكومة العراقية لمنع الرياض من أن تكون الطرف الراعي للحل العراقي.

واستنادا إلى هذه الوقائع يمكن فهم الأسباب التي أدت إلى سقوط السين - سين في لبنان، أي أيضا في سياق استخدام إيران نفوذها بسورية ولبنان للحؤول دون إنضاج دور للمملكة العربية السعودية، خصوصا على صعيد المصالحة بين اللبنانيين.

إزاء هذه الوقائع التي تزخر بها الساحة السياسية اللبنانية اختار الرئيس سعد الحريري الاستجابة لخطاب المواجهة، لكن هذه المرة، في ظل متغيرات موازين القوى الداخلية، ووسط ترددات يشهدها العالم العربي على إيقاع الانتفاضة التونسية والثورة المصرية.

وهو، إذ أعلن ثوابته في مخاطبة أنصاره وجمهور «14 آذار»، متسلحا بشهادة أبيه، شدد عبر هذه الثوابت على تبني خيار المعارضة لـ«الحكومة المزورة»، مدرجا عناوين حماية الدستور واحترامه والمحكمة الخاصة بلبنان ومواجهة السلاح غير الشرعي كتحديات شكلت محور أهداف ثورة الأرز.

ولا يخفى أن هذه المهمات، التي فشلت حكومات ما بعد عام 2005 في إنجازها، تبدو اليوم، ومع خروج الحريري من السلطة، أمام أسئلة يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي.

فعلى جبهة قوى «14 آذار» بدا الرئيس الحريري، المقتنع بخيار المعارضة مستعينا بالتفاف شبه كامل لجمهور المسلمين السنة من حوله، متمايزا عن حلفائه المسيحيين، لا سيما الرئيس أمين الجميل والوزير بطرس حرب، اللذين يظهران اهتماما بالمشاركة في الحكومة.

وقد أعلن الحريري هذا الأمر في بعض الأحيان، وأضمره أحيانا أخرى، مما يزيد من حالة انعدام الثقة بتماسك قوى «14 آذار».

وعدم التماسك هذا تحيله أوساط متابعة إلى قلق لدى بعض مسيحيي «14 آذار» من أن عدم المشاركة في الحكومة سيفضي إلى تمدد قوة العماد ميشال عون وحلفائه من مسيحيي «8 آذار» في الشارع المسيحي، مستفيدين من تفردهم بمجمل الحصة المسيحية في الحكومة، وبالتالي بحزمة الخدمات والتعيينات والترقيات التي تتيحها هذه الحصة.

ويعتقد هؤلاء أن الفارق بينهم وبين الرئيس الحريري يكمن في أن الحريري يذهب إلى المواجهة وخلفه السنة في الحد الأدنى، بينما الجمهور المسيحي يشهد انقساما حادا بين ثنائية «8 آذار» و«14 آذار»، وهو جمهور «متحرك» أمام الكتلتين الجامدتين، السنية والشيعية، المتكتلتين خلف السيد حسن نصر الله من جهة، والحريري من جهة أخرى.

إلى هذا التمايز وتضارب المصالح في التعامل مع مسألة المشاركة في الحكومة ثمة تساؤل حول مدى القدرة على استعادة جمهور «14 آذار»، الذي يشعر جزء منه بأنه تعرض، من ممثليه أكثر من خصومه، إلى طعنات، ومني بخيبات من هؤلاء، وتحديدا لأنهم استلموا السلطة خلال السنوات الماضية من دون جدوى. هذا الجمهور، بقدر اقتناعه بصحة الأهداف التي يحملها، فإنه لم يزل يشعر بوجود هوة واسعة بينه وبين القيادة التي تستنجد به اليوم. وهذه الهوة لا يبدو أن ردمها ممكن في المدى المنظور، خصوصا إذا لم تظهر القيادة، القديمة الجديدة، قدرة حيوية على إحداث تحول جذري على صعيد التفاعل مع الجمهور وإثبات أن «العودة إلى الجذور» ليست مجرد تلويح سياسي، يمكن التراجع عنه عند أي إشارة إقليمية أو دولية، أو عند أي صحن جبنة محلي!

أيضا فإن الانقسام الذي يعيشه لبنان اليوم تشكل العصبيتان السنية والشيعية محوره وتكادان تختصرانه. وتبدو «14 آذار» مشدودة إلى هذا الانقسام، على اعتبار أنه يشكل قاعدة قوة لها، ويحميها من التقهقر بعدما عجزت عن التمدد والتحول إلى مشروع عابر للطوائف والعصبيات.

في المقابل حقق حزب الله خطوات في اتجاه التمترس خلف التيار الوطني الحر لتنفيس الاحتقان السني في وجه العماد عون، عبر خلق تنافر بينه وبين الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، يستفيد منه الثلاثة، حزب الله بنقل بعض أعباء السنية باتجاه العماد عون، والرئيس ميقاتي باستقطابه تعاطفا سنيا هو أحوج ما يكون إليه في المرحلة الحالية، وعون من خلال استعراض القوة التي تظهره كزعيم ماروني يستعيد حقوقا (مفترضة) استلبت من الموارنة في العهود السابقة.

يبقى أنه مع إمساك المحور الإيراني – السوري بقواعد السلطة في لبنان وقيادة توجهاته في المرحلة المقبلة، تتقدم المحكمة الخاصة بلبنان إلى واجهة الصراع الداخلي بامتداداته الإقليمية والدولية.

وبينما يتوقع أن يحقق حزب الله نجاحا على صعيد تبني الحكومة لموقفه من المحكمة وبالتالي القرار الظني، لن يخرج الرئيس ميقاتي بتأييد لهذا الموقف، بل سيكتفي بعملية تصويت مضمونة داخل مجلس الوزراء تؤمن له ما يريد، وسيعلن أنه ضد ما جرى، لكن ما جرى سيكون قد جرى. وبالتالي، يستطيع الرئيس ميقاتي أن يقول إنه لم يخرج على الثوابت الإسلامية التي صدرت عن اجتماع القيادات السنية في دار الفتوى.

هكذا يبدو خطاب الرئيس الحريري محدودا وغير فعال أمام التطورات.. إذ بدأ حرب والجميل مفاوضاتهما مع ميقاتي قبل مرور ثلاثين ساعة على الخطاب، وأعلنت كتلة «المستقبل»، بعد يومين، أنها تنتظر «إجابات من ميقاتي».. فأين «العودة إلى الجذور»؟

في النهاية، يبدو أن «جذور» قوى «14 آذار» ما عادت في المتناول. في تلك الأيام كان «الشباب» يقودون الأرض، وغير الطائفيين، من جورج حاوي وسمير قصير وجبران تويني وغيرهم، وهم قتلوا كي نفتقدهم هذه الأيام، حين يعجز الطائفيون عن إمساك «جذور» الثورة الغابرة.