ملك الوفاء

TT

الحمد لله على عودتك إلى بلادك سالما معافى بعد الجراحة الكبيرة التي أُجريت لك. لقد ترقب شعبك عودتك بكل شوق ولهفة، وهاهم اليوم يستقبلونك، وعلى رأسهم ولي عهدك الأمين وإخوتك الغر الميامين، بقلوب مفعمة بالمحبة والوفاء. فالوفاء هو ما عودتهم عليه منذ أبيت الانجراف في المد الناصري الذي طوى في أمواجه أناسا وأناسا، وأعلنتها جهارا أنك تأبى إلا أن تبقى وفيا لدينك ووطنك ومليكك.

ثم تبوأت قيادة الحرس الوطني، وبقيت وفيا لعملك في خدمة أربعة ملوك، ثم عضوا في اللجنة العليا، ثم نائبا ثانيا لمجلس الوزراء، ثم نائبا أول لمجلس الوزراء. ائتمنوك فوفيت، وارتقيت بالحرس الوطني ليضحى مؤسسة حضارية تخدم الوطن والمواطن من خلال تدريب أفراده وضباطه بأعلى مستوى من الاحترافية، وتهيئتهم لتحمل أعباء المهمات الجسيمة المنوطة بهم. ومن منا لا يذكر ما قامت به قوات الحرس الوطني، بمشاركة إخوانهم في القوات الجوية من تطهير مدينة الخفجي من قوات صدام حسين أثناء حرب تحرير الكويت. وهاهو الحرس الوطني يعقد سنويا - برعايتكم وعنايتكم - أكبر مهرجان ثقافي عربي في الجنادرية. وعندما أصاب المرض خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، يرحمه الله، وفوضكم بإدارة أمور البلاد، كان وفاؤكم المعهود هو نبراسكم؛ فقمتم بما كلفتم به خير قيام، وما أن منَّ الله تعالى عليه بالعافية، يرحمه الله، حتى أعدتم الأمانة إلى مليككم، وعملتم ما أمركم به، يرحمه الله. فهكذا يكون الوفاء والولاء. وكان لك أن تبادر بالإصلاحات الداخلية، من إنشاء مجلس الاقتصاد الأعلى، والهيئة العليا للاستثمار، وتنسيق الوزارات، والدفع نحو الارتقاء بالتعليم منهجيا وإنشائيا؛ بحيث أصبح لدينا أكثر من خمسين جامعة، وأكثر من مائتي كلية مهنية، وأكثر من مائة ألف مبتعث ينهلون معارفهم في أحسن جامعات العالم، ثم أسست درة الجامعات، التي تحمل اسمك، وتعنى بالعلوم والتقنية لتكون قبلة من يبحث عن النهل من معين أفضل وأبرع ما أنتجه العقل البشري منذ عهد دار الحكمة في بغداد؛ وأمرت بإصلاح القضاء بجميع فروعه، وغير ذلك من الإجراءات الحكومية التي نعتها بأنها استكمال لما سبق من إصلاحات، وبداية لما سيأتي من خير في المستقبل. ثم توجت إصلاحاتك بأمرين، الأمر الأول هو: الحوار الوطني الذي بدأته منذ عقد ونيف، والذي تطور ليصبح بابا مشرعا لتداول المشورة بين مكونات المجتمع كافة، وأسست له أمانة عامة ليبقى عملا مؤسسيا يفيد البلاد والعباد. والأمر الثاني هو: تأسيسك لهيئة البيعة التي وضعت ولاية الأمر في تنظيم محكم لا يترك مجالا للتأويل أو للتخمين.

هذا، يا سيدي، غيض من فيض يعبر عن استمرارك في وفائك لربك، ثم لدينك، ثم لوطنك. وإذا نظر المرء إلى تعاملك الخارجي لوجد أنك ظللت وفيا لمبادئك التي ورثتها عن الملك المؤسس، أبيك، عبد العزيز بن عبد الرحمن، يرحمه الله، وتبعه إخوانك الذين خلفوه، يرحمهم الله.

فالأمتان الإسلامية والعربية هما أساس ما بناه أبوك لتوطيد علاقات المملكة الخارجية؛ حين مد يده لكل من أراد صداقته، يظهر وده للصديق، ولا يدس على أحد. وها أنت تمارس ما ورثت؛ فكان مشروعك الذي أسس لسلام عادل بين الدول العربية وإسرائيل، الذي تؤيده اليوم دول العالم كلها ما عدا إسرائيل. ثم هناك سعيك للم شمل الدول الإسلامية عندما دعوت إلى مؤتمر طارئ لمنظمة المؤتمر الإسلامي عقب تسلمك مقاليد الحكم، ووضعت برنامجا عشريا للنهوض بالمسلمين من خلال السعي لمحو الفقر والمرض والجهل. ولا شك أنك لم تحقق بعدُ كل ما تطمح إليه، لكنك أعلنتها، وشحذت همم المسلمين ليؤدوا ما عليهم، ودعوت إخوانك العرب إلى نبذ خلافاتهم، وبادرت إلى مد يديك لمن ناصبوك الخلاف منهم. ومن منا لا يقدر لك محاولتك الكريمة لجمع شمل الفلسطينيين من خلال اتفاق مكة، ذلك الاتفاق الذي يتحسر عليه اليوم من لم يهتموا به عند توقيعه، وغير ذلك من المحاولات التي لا تزال تشغل بالك. ثم دعوت البشرية إلى المضي معك قدما إلى عصر من الوئام والمحبة عندما أطلقت حوار الثقافات والأديان، ولم تكتف بالكلام؛ وإنما وضعت له أمانة عامة لتمضي بنا - مسلمين وغيرهم - إلى بر الأمان من الحروب والصراعات التي أدمت بني البشر منذ بدء الخليقة.

سيدي.. في عصر غرقت فيه الأخلاق في لجة موج عات، وأصبح الوفاء كما قال الشاعر:

وفيت وفي بعض الوفاء مذلة

أبيت إلا أن تسمو بالوفاء عاليا

ليشهد لك شعبك، وشعوب العالمين العربي والإسلامي، بل شعوب العالم الغربي أيضا بأنك، حقا، ملك الوفاء.