العار لأوباما وأميركا

TT

الفيتو الأميركي على قرار مجلس الأمن الخاص بإدانة المستوطنات الإسرائيلية هو عار كامل للرئيس باراك أوباما وللولايات المتحدة الأميركية سوف يظل مسجلا في كتب التاريخ، وسجلات المنظمة الدولية إلى الأبد. هو عار أولا لأن أميركا وقفت فيه أمام العالم أجمع تستخدم حق الاعتراض بينما الأغلبية الساحقة من دول العالم بلغ السيل لديها الزبى من الصلف الإسرائيلي ورفضه الدائم لوقف تغيير الحقائق على الأرض من خلال الاستيطان الاستعماري. ولم يخفف من هذا العار ذلك الاعتذار غير المفهوم الذي قالت به ممثلة الدولة الأميركية في مجلس الأمن أن هذا الموقف - الفيتو - لا يعني الاعتراف بشرعية الاستيطان، لأن مثل ذلك لا يزيد على نوع من البهلوانيات الدبلوماسية. بل إن ذلك في حد ذاته يمثل عارا ثانيا على دولة عظمى أتاها رئيس يدعي وضعه نوعا من الأخلاق العامة على سياساته الداخلية والخارجية؛ ولكنه الآن ومن أجل دوافع داخلية وسياسية محضة يستجيب لموقف غير عادل وغير أخلاقي.

ولكن العار الثالث الذي يأتي على الرئيس الأميركي وبلاده هو أنه في النهاية يشطب تماما ما سُمي عملية السلام. أعرف أن كثيرين سوف يستنكرون وجود عملية للسلام من الأصل، أو توقع ما هو شرف وأخلاقي من الولايات المتحدة، ولكن في عالم السياسة العملية هناك دائما نوبات صعود وخفوت، وهناك عمليات حرب تقابلها من الناحية الفكرية والسياسية عملية سلام لها مفهوم يقوم على أن صراعا ما يمكن حله سلميا. تصويت الولايات المتحدة على هذه الشاكلة، وفي هذا التوقيت تحديدا، يقتل هذا المفهوم ويعطي لقوى الثورة والفورة والفوضى وقودها الذي تحتاج إليه وتتشبث به.

ومن الجائز بالطبع داخل الولايات المتحدة وخارجها الاعتقاد أن قوى الثورة والفورة والفوضى كانت جاهزة في المنطقة لأسباب موضوعية داخلية، وذلك إلى حد كبير صحيح، ولكن إلقاء الزيت الأميركي على النار المشتعلة في المنطقة كلها لا يفعل أكثر من أن يزيدها اشتعالا وانتشارا. ولمن لا يتذكر فإن الرابطة التاريخية ما بين القضية الفلسطينية والأوضاع الداخلية في دول المنطقة كلها كانت وثيقة، وبلغ بها التداخل أن كانت دائما وراء ثورات وهبات تعيش على «القضية» وما تمثله من ظلم وعار لا أخلاقي ينتهي دائما بإعطاء قوى أخرى شهادات أخلاقية حتى ولو كانت تدوس على رقاب الشعوب.

عار أوباما والولايات المتحدة الأكبر أنه لم يفهم النتائج الاستراتيجية الكبرى ليس فقط من الفيتو الأميركي، وإنما من المنهج الذي يستند إليه. لقد حصلت إسرائيل على فرصتها التاريخية من أجل السلام، ولكنها في النهاية استمرت في غيها وتوسعت في مستعمراتها وخلقت أعداءها الذين يشبهونها في التشدد والتعصب والمغامرة. وهكذا حصلت إيران على هديتها التي كانت تنتظرها لكي تقمع الثورة الديمقراطية داخلها، وجاء لحزب الله على طبق من فضة ما يكفي لإذلال لبنان كلها ما دام سوف يكون السبيل إلى تحرير الجليل.

لقد انقلبت المنطقة كلها رأسا على عقب، وعندما ينقشع الغبار سوف يظهر وجه آخر لدول تريد أن تغير قواعد اللعبة كلها. وإذا كانت أميركا لا تستطيع حتى أن تؤيد قرارا يرفض الاستيطان الإسرائيلي وهي التي عانت طوال الأعوام الماضية من التعنت الإسرائيلي بصدد هذه القضية، وحتى جرى ذلك بصلافة إسرائيلية لا تليق بالتعامل مع دولة تمد إسرائيل بالكثير من المعونات والسلاح والتكنولوجيا، فإن الإجماع القادم في المنطقة سوف يكون على قواعد لعبة أخرى.

وربما يرى الكثيرون أن الموقف الأميركي ليس فيه جديد، فكم عرفت الأمم المتحدة من مرات الفيتو الأميركي، الذي كان في أكثر الأحيان ضد إرادة المجتمع الدولي كله. ولكن الحجة الأميركية أيامها كانت دائما أن موقفها يساعدها في جلب التنازلات من الجانب الإسرائيلي الذي عليه أن يعطي تنازلات مادية على الأرض مقابل وعود معنوية عن السلام الممكن. ولكن المسألة الآن لم تعد كذلك بالمرة، فالمستوطنات الإسرائيلية بلغت مرحلة اللاعودة من حيث تغييرها لعناصر القضية كلها حتى جعلت قيام دولة فلسطينية فاعلة كما هو متصور في عملية السلام غير ممكن، بل مستحيلا. وإذا كانت إسرائيل مصممة على دولة واحدة من النهر إلى البحر؛ فإن عليها أن تتوقع دولة فلسطينية، وليس إسرائيلية، في هذه المنطقة.

الغريب في الأمر أن الفيتو الأميركي جاء وكأن صناع القرار في البيت الأبيض لا يشاهدون ما يجري في الشرق الأوسط. لقد خرجت تركيا عن قوقعتها الأطلنطية وباتت جزءا من تفاعلات المنطقة؛ وجاءت حكومة ورئاسة محافظة في إيران على استعداد للمغامرة والمقامرة، ويوجد بين يديها من الأوراق ما يكفي لكليهما؛ وبعد ذلك هناك نيران مشتعلة بعضها صغير في الكويت وعمان والمغرب والآخر كبير في البحرين والعراق واليمن ومصر وليبيا وتونس والجزائر والسودان. وعندما يجري تدمير تمثال للكتاب الأخضر في بنغازي؛ ويخطب الجمعة الشيخ يوسف القرضاوي في ميدان التحرير فمعنى ذلك أن عالما جديدا قد ولد، غير معروف خيره من شره، ولكنه سوف يعبر عن توازنات استراتيجية وقيم جديدة كلها تجعل قواعد اللعبة التي عرفتها أميركا لا وجود لها.

وربما كان ذلك هو العار الأساسي الذي وقع على أوباما وصحبه في البيت الأبيض، حيث ظلت الحكمة الشائعة قائمة على توازنات وقيم عقد السبعينات من القرن الماضي، عندما وقعت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ونشبت الثورة الإيرانية، ومن يومها قام توازن بين قوى الثورة وقوى الاستقرار باتت له قواعده وأصوله التي يلعبها الجميع بحرص بالغ، حتى بعد أن ارتج النظام كله بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 وجرى الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق.

ولكن هذا النظام انهار الآن، وربما ظلت له بعض بقايا أظنها لن تبقى طويلا، وما سوف يأتي منها تغييرا لن يأخذ وقتا طويلا، فالأحداث تجري بأسرع مما يتصور أحد. المهم أنني لا أظن أن التصويت بالفيتو الأميركي الأخير سوف يفيد لا الولايات المتحدة ولا دول المنطقة لحظة الميلاد الصعبة لشرق أوسط لم يعرفه أحد من قبل.

هل للفيتو الأميركي كل هذه الأهمية؛ والإجابة هي: نعم ولا؛ نعم لأنها تضع خطا على علاقة الولايات المتحدة، وربما الغرب كله، بما سوف يأتي إلى منطقة لا تعرف كيف تنسي أو تغفر. ولا لأن الصدام بين الغرب والمنطقة أخذ أشكالا كثيرة طوال القرنين الماضيين، ومهما كان الأمل في ظل آمال القرن الواحد والعشرين بعلاقة جديدة، فإن ما حصلنا عليه هو ما كان موجودا طوال الوقت على أية حال.