إنها المفارقة: زعيم يرحل وزعيم يقدُم

TT

على مدى عقود، تعودت وسائل الإعلام السعودية ألا تتعامل مع الأخبار الرسمية إلا حين ترد إليها من مصادرها المخولة، وألا تزيد عليها أو تنقص.

الوضع بدأ يتغير الآن ومنذ سنوات، نحو إيجابية التعامل مع أخبار كانت، ليس لحسابات أمنية فحسب، ذات طبيعة سرية، لكن المدرسة والتقاليد المتبعة كانت تقضي بذلك، حتى جاء أحد وزراء الإعلام السابقين (محمد عبده يماني) قبل ثلاثة عقود، فأزاح بشيء من العفوية الجريئة، بعض الحُجب عن مداولات مجلس الوزراء، والخروج بأخباره عن التقليدية المتوارثة، فوجد المعنيون بالأمر أن الإفصاح عما يتخذه المجلس من قرارات تهم المواطن، يمكن أن يخدم المقاصد التواصلية بين الحاكم والمجتمع.

اليوم، صارت تحركات المسؤول الأول مدار معرفة المواطن والمقيم والقاصي والداني، مع تحديد ساعة الوصول والمغادرة قبل أيام، فلا شيء يحجب أو يخفى، وكثير من بنود الرقابة الإعلامية أصبحت الآن في خبر كان الماضي.

العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، يعود اليوم إلى وطنه بعد رحلة استشفاء دامت شهرين تعامل معها الإعلام الوطني بشفافية ووضوح منذ أن بدأ العارض الصحي، وكان المواطن يتابع تطور الحال، ويعرف يوم المغادرة، ومقر الاستشفاء، وهدف الرحلة العلاجية ومجرياتها، وتغيير المكان، ثم رحلة العودة وموعد وصولها.

الملك يعود، في وقت تضطرم فيه النيران في المنطقة من شمالها إلى جنوبها ومن خليجها إلى محيطها، والزعامات تتساقط أو تتسابق إلى التنازلات عن ثوابت كانت تعد إلى وقت قريب، مسلّمات تعبر عن تخلف النظام العربي، وخاصة الثوري منه.

كان الناس يظنون أن سقوط أُولى تلك الزعامات، سيجعل بقية الحكام يحكمون سيطرتهم على أنظمتهم خشية انتقال العدوى، وكان المظنون أن الملك عبد الله سيهرع عائدا إلى بلاده، ويقطع رحلته العلاجية، للإمساك بزمام الأمور أن تنفلت، بعد أن أحاطت الاضطرابات ببلاده من كل جانب، وأطاحت على وجه الخصوص، بزعامة عربية كبيرة، ما كان الذهن يتصور أنها يوما سيطالها الزلزال.

لكن الذي حدث خالف التوقعات، إذ بقي الملك يواصل علاجه بكل طمأنينة وثقة، يتداوى وعقله وفكره مع وطنه، ليس لأن بلاده بمعزل عما يدور حولها، ولكن لأنه حصن نفسه على مدى سنوات حكمه الخمس بإرضاء ربه وضميره، مما أدى إلى حب شعبه واحترامه له.

فالزعامة إذن هي التي تصنع الفرق، والقرب من الله والناس هو الوقاية والأمان وسر البقاء.

لا يعني هذا بالطبع العصمة والكمال، لكننا، وبكل إنصاف أمام زعامة أدركت مبكرا، وتعيش في كل يوم، مكامن الضعف والخلل في مجتمعها، وأوجه النقص والقصور، زعامة زارت مواطن الفقر، ووضعت يدها على بؤر الفساد، وتعاملت بفورية مع الكوارث الطبيعية، ومع سوءات العقود والمناقصات، وأخطاء التنفيذيين والمتنفذين.

اليوم يعود رجل حمل - بنقاء السريرة - هموم وطنه معه في مشفاه، وهو يُستقبل بحميمية تلقائية، وهو مليء بتطلع لا يهدأ ليحقق آمال شعبه في تجديد إداري مستحق، وفي مواصلة عملية الإصلاح الدستوري، وفي دفع عجلة القضاء على النفعية الإدارية والمالية والقضائية من إغراءات الموارد، وفي مواصلة العلاج الجريء لأزمة البطالة، وإنصاف المرأة.

* إعلامي سعودي