الكادح الأول

TT

كانت ليبيا خلال الأربعين عاما الماضية عبارة عن مشهد إعلاني معد، غالبا تنقصه المهارة، وسوء توزيع في الألوان. لم تكن الحقيقة مهمة، بل المشهد المعروض، والرجل الذي في وسطه، مرة بثياب ملازم بسيط، ومرة ببزة قائد قوات الكون، جوا أو بحرا أو برا، ومرة بالثوب التقليدي الوطني، ثم بجميع أثواب أفريقيا وألوانها. ويجب أن لا ننسى المرحلة التي ارتدى فيها قميص مانديلا المزهر، الجميل. في جرأة لا مثيل لها.

طرح نفسه منقذا للعالم. فكما وضع ماو تسي تونغ «الكتاب الأحمر» وضع معمر القذافي «الكتاب الأخضر». وطرح نفسه موحدا للعرب وخلفا لعبد الناصر. وجاء إلى أول قمة عربية ومعه مسدس يريد أن يحسم به الصراع الأردني - الفلسطيني مرة واحدة. وظل لسنوات عدة يلقب نفسه «أمين القومية العربية» ثم أعلن غضبه من العرب ويئس منهم وتم تتويجه في خيمة سرت المفرقعة الألوان «ملك ملوك أفريقيا». وطرح نفسه كاتب ليبيا الأول. ووضع رواية قصيرة عن فقراء العالم. وظل يصر على أنه من فقراء هذا الكون. وكما طرح كارل ماركس نفسه داعية للعمال، طرح هو نفسه كادحا فقيرا. ووجه عام 1986 دعوة «ملحة لتشكيل حزب الكادحين والمنتجين العارقين والأرامل والمطلقات خلافا للشريعة والمغتصبات بالمال والكناسين والسباقات والنظافات وراقدي الريح وقليلي الوالي والمساكين. ولخلق دولة الجماهير، الجماهير فقط صاحبة المصلحة في الثورة، والتي أكلت الطحالب حصتها ومص دراكولا دمها».

وفي عام 2007 أعلن أنه وأسرته يشكلون أول المحرومين في البلاد. وروى أن زائرين جاءوا منزله مرة فاضطرت زوجته إلى إرسال ابنتها عائشة لبيع بعض الدجاج التي كانت تربيها، من أجل شراء ما يلزم للضيوف المفاجئين. وأما نجله الساعدي فقد باع بعض النوق التي ورثها عن جده منيار للإنفاق على استضافة فرقة رياضية إيطالية زائرة.

يروي الأستاذ محمد حسنين هيكل أن رئيس الوزراء السوفياتي اليكسي كوسيغين «سألني مرة: ماذا يفعل القذافي ببتروله؟ ثم أمسك كوسيغين بورقة وقلم وراح يحسب حجم الإنفاق الليبي، ثم يحسب دخلها من البترول ويوزعه على عدد سكانها، وكان في اعتقاده أنه في عشرين سنة، كل مواطن ليبي لا بد وأن يصبح مليونيرا».

المشهد وصاحبه.. مرة أفاق العالم فشاهد القذافي على رأس تظاهرة ذاهبة لتدمير السجون في ليبيا. كان الإخراج سيئا كالعادة وبلا اهتمام بالتفاصيل؛ فقد كان الرجل مغطى تماما بحراسة من الشرطة العسكرية، ولم تكن حاجة لسجن في أي حال، جميع المعارضين كانوا قد صاروا في المنفى.