عزل حسني مبارك؟

TT

مبارك لم يستقل، بل عزله الجيش الذي انحاز إلى جانب المطالب المشروعة للشعب. هذه مقولة قريبة جدا من حقيقية ما حدث، قبل أن نصدقها على إطلاقها لا بد من قراءة الأحداث التي أدت إلى قرار العزل الذي اتخذه المجلس العسكري الذي يحكم مصر حاليا.

المواجهة بين القوات المسلحة المصرية والرئيس السابق محمد حسني مبارك بدأت قبل الخطاب الثاني الذي ألقاه مبارك يوم 1 فبراير (شباط) 2011، حيث كان هناك ضغط سياسي كبير عليه لكي يترك منصبه، وهذا ما قالته الولايات المتحدة الأميركية على لسان المتحدث باسم خارجيتها حين قال إن على مبارك أن يبدأ نقل سلطاته الآن، وعندما سئل ماذا تعني الآن؟ أجاب ساخرا: الآن هنا تعني الأمس. وكانت هذه إشارة واضحة من الولايات المتحدة لعزل مبارك. ولكن القوى الإقليمية وعائلة مبارك وأصدقاءه.. ضغطت على الجيش لكي يعطى الرئيس فرصة أخيرة، وصورت من يقومون بالاحتجاجات في تلك الفترة على أنهم «أقلية مصرية ذات صوت عال»، وأن لمبارك مؤيدين سيظهرون بأعداد أكبر «لو أعطي الرئيس الفرصة لمخاطبتهم».. وقبل قادة الجيش هذا التوسل، وخطب الرئيس في الناس خطابا مؤثرا، انقسم الناس حوله وظهرت مظاهرات مؤيدة لمبارك في ميدان مصطفى محمود ممن جيّشهم رجال الأعمال الذين استفادوا مباشرة من النظام، ولم يكتف هؤلاء بذلك؛ بل حرضوا شيعتهم على الذهاب إلى ميدان التحرير لمواجهة من يرفضون مبارك.

وقامت المواجهة التي سميتها بـ«موقعة الجمل»، حيث جاء بلطجية الحزب الوطني على ظهور الجمال والبغال والحمير واقتحموا ميدان التحرير وضربوا المتظاهرين، وكانت هي مواجهة عصر الجمال ضد «الفيس بوك» والقرن الحادي والعشرين.

قرار العزل الذي اتخذه المجلس العسكري جاء بعد «جمعة الغضب» يوم 28 يناير، حيث كان عدد المتظاهرين كافيا لكي تحسم القوات المسلحة المصرية أمرها. وعلى أثرها قام مبارك بتعيين عمر سليمان نائبا له كخطوة لإرضاء الجيش وربما الشعب، وعمر سليمان مقبول إقليميا ودوليا، وكان وقتها لا يزال مقبولا مصريا.

ولكن لم تكن هناك صلاحيات واضحة لنائب الرئيس، لذا طلب الأميركيون من مبارك أن ينقل معظم الصلاحيات لنائبه كخطوة أساسية إن كان جادا في تخليه عن السلطة، إلا أن مبارك أكد لهم أن أغلبية الشعب المصري تؤيده وأن تنحيه عن الحكم سيغرق البلد في حالة من الفوضى الهدامة..

بعدها فرغت شوارع مصر من عناصر الشرطة والأمن وفتحت أبواب السجون بقصد تثبيت حالة الفوضى المرجوة. وقد اعتبر المصريون خطاب مبارك الذي كرر فيه كلمة الفوضى أكثر من مرة رسالة مشفرة في هذا الخصوص.

كانت هناك مؤشرات واضحة على دور الجيش في الثورة. ففي أول فبراير قال الجيش إنه ينحاز إلى المطالب المشروعة للشعب المصري، وهذا في ظني هو بداية قرار عزل مبارك.. جاءت زيارة المشير محمد حسين طنطاوي إلى ميدان التحرير يوم 4 فبراير كتتويج لقرار العزل هذا. وجاء هذا واضحا فيما أشار إليه فيما بعد قادة المجلس العسكري صراحة في مقابلة تلفزيونية على قناة «دريم» حول دور الجيش المصري في الثورة.

«موقعة الجمل» والعدد الضئيل لمؤيدي مبارك الذي لم يتجاوز العشرة آلاف، أثبتا بما لم يدع مجالا للشك، للأميركيين خصوصا، أن لا شعبية لمبارك في مصر، وهذا الذي جعل المشير طنطاوي القائد العام للقوات المسلحة ورئيس المجلس العسكري الحالي أن يذهب في وضح النهار إلى ميدان التحرير يوم 4 فبراير أي قبل أسبوع من إعلان عمر سليمان استقالة مبارك.

بعد هذه الزيارة إلى ميدان التحرير أصبح جليا أن القوات المسلحة هي التي تسيطر على زمام الأمور في مصر. وقد قلت هذا صراحة في وقتها على شاشة «بي بي سي» الإنجليزية.

إذن الأسبوع الأخير كان للمفاوضات لإخراج مبارك من الصورة مع حفظ ما أمكن من ماء الوجه لرجل من رجال القوات المسلحة. مع العلم أنه كان هناك سيناريو احتياطي يأخذ فيه خروج مبارك شكل الانسحاب للعلاج في شهر يونيو (حزيران).

وحسب مصدر عليم، أن المظاهرة المليونية الثانية التي عرفت بـ«جمعة الرحيل» هي التي أقنعت القوات المسلحة بوجوب تخلي مبارك عن السلطة علانية، وأن ينقل صلاحياته إلى عمر سليمان.

ومع تزايد المظاهرات المليونية في «أسبوع الصمود» والتصاق صورة عمر سليمان بالرئيس مبارك، تبخر رصيد سليمان السياسي ولم يعد اسمه من ضمن الأسماء المقبولة كبديل لدى الشعب المصري، ومع ذلك أصرت أسرة الرئيس مبارك، وخصوصا ابنه جمال (حسب المصدر) على أن تتاح لمبارك فرصة أخيرة لاستعطاف الشارع بعد خطاب عاطفي أخير تجس القوات المسلحة نبض الشارع من خلاله بأدواتها هي، وإن لم تفلح المحاولة الأخيرة يتنحى مبارك عن منصبه. وكانت مظاهرات الجمعة التي ملأت مصر كلها أوضح استفتاء على خطاب مبارك الأخير. في عصر ذات الجمعة، خرج سليمان منهكا في خطاب مقتضب معلنا استقالة حسني مبارك من منصبه كرئيس لمصر.

المتابع لكل هذه السلسلة من الإجراءات والمفاوضات المحلية بين الجيش والثورة والولايات المتحدة والقوى الإقليمية، يدرك أن مبارك قد تم عزله فعليا قبل إعلان عمر سليمان استقالة الرئيس، وكان الطرفان الرئيسيان في عملية العزل منذ بداية فبراير هما الجيش والثورة الشعبية في الشارع.