دروس ورسائل: نهاية الأيديولوجيات في العالم العربي

TT

يلزمنا، جميعا فيما أحسب، زمن كاف حتى نستوعب ما حدث في كل من تونس ومصر في أسابيع قليلة. لقد جاءت الأحداث الجسام في البلدين، وعلى نحوين متغايرين في الأسلوب ومتشابهين في الهدف، سريعة ومتلاحقة. لم نكن نملك الوقت لاسترجاع الأنفاس والخروج من حال الدهشة ووقع المفاجآت المتصلة الواحدة تلو الأخرى. لم يكن لنا بد من متابعة تتصل ساعات طويلة من اليوم لما يحدث في «ميدان التحرير» وفي «نهج الحبيب بورقيبة»، وغيرهما من الساحات والمدن الأخرى في مصر وتونس، متابعة ما يجري بالصوت والصورة في «الزمان الواقعي» وفي قبضة كاميرا ومذيع لم تكن الموضوعية قط أول همومهما (وهل الموضوعية في ذلك ممكنة؟). كما كنا، من جهة أخرى، نتنقل، في لهفة وعجلة، بين القنوات الوطنية في البلدين (مع شح الأخبار والاختباء خلف هدوء كاذب) وبين الفضائيات الكبرى في العالمين العربي والغربي.. وكان الهم في ذلك هو تبين الكيفيات المختلفة التي يتم بها وعي الذات عند كل من التونسيين أولا ثم المصريين ثانيا، في المقابلات والحوارات التي أعقبت الإطاحة بالرئيس في كل من البلدين، مثلما كان الهم، من ناحية أخرى، تبين الصورة الجديدة التي هي في طور الارتسام في الوعي الغربي للعالم العربي وللإسلام والمسلمين من خلال النموذجين التونسي والمصري.

ويبدو الآن أن زمان استخلاص الدروس الأولية وتبين دلالة الرسائل التي بعثها الشارع وحملها الشباب في كل من البلدين العربيين العزيزين قد أزف. وهذا هو ما نود محاولته اليوم في وقفات سريعة قابلة للفهم والمراجعة ليس في ضوء ما تسير فيه الأمور من تطور منطقي فحسب، بل في تطور وعينا ذاته نتيجة معطيات شتى لا نملك التكهن بها بطبيعة الأمر.

لعل الرسالة الأولى، القوية والواضحة، هي طبيعة الجدة في ما وقع في البلدين (مع اختلاف في المعطيات الخاصة بكل من البلدين وما يصح نعته، بالأحرى، بالتلوينات المحلية التي ترجع إلى عوامل الجغرافية، والتركيب الإثني، والتاريخ المحلي وإلى ما يشكل جملة العوامل المميزة في كل من الشخصيتين التونسية والمصرية مع الاشتراك في القاعدة الأساس أو الانتماء إلى «الشخصية القاعدية» الواحدة، وهي العربية أو العروبة. وفيما يتعلق بمصر تحديدا أجدني في موافقة تامة للرأي الذي يقضي بمماثلة ما وقع في «ميدان التحرير» (والحديث عن الميدان يقصد الرمز لا المكان تحديدا) مع ما شهدته مصر في ثورة 1919. وجه الاشتراك في الانطلاقة من المكون العميق للشعب المصري في إرادة لإسقاط «النظام». أستسمح القارئ الكريم بالرجوع إلى ما كتبته في الحلقة الماضية (10 فبراير) إذ طرحت السؤال: ما المقصود بالنظام الذي كان شعارا طاغيا في ثورة الشباب: الشعب يريد إسقاط النظام؟ كتبت متسائلا: «هل ظل النظام في جمهورية مصر العربية واحدا منذ ثورة الجيش في يوليو 1952، فلم يكن التبدل سوى ظاهري وجزئي أم أنه عرف تحولا كيفيا». أما اليوم، وفي ضوء ما شاهدت وسمعت من ردود أفعال الشباب وأساتذة الجامعة، والمسؤولين في القطاعات المختلفة ممن تعاقبوا على المحطات التلفزيونية العديدة في مصر، وما قيل بوضوح تام، أما اليوم فإنني أملك أن أقول، في عبارة صريحة، إن القصد بالنظام المراد إسقاطه هو ذاك الذي ظل قائما في مصر العربية مدة تقارب الستين سنة كاملة. حدثت تحولات نوعية، كما وكيفا، غير أن الحذر والأساس ظل واحدا. والإنسان العربي اليوم (في تونس ومصر وفي غيرها من البلدان العربية التي تعيش حالة الحزب الواحد، والسلطة الواحدة التي تم الوصول إليها على متن الدبابات وتم إعلان الشرعية فيها عن طريق «البيان رقم واحد») يطلب شيئا آخر، والشباب أظهر قدرته على امتلاك الجرأة وتحريك الماء الآسن وإحداث رجة قوية في الوعي وحركية ملموسة في المكان. وهذه هي الرسالة الثانية وقد كتبت بعبارة ليست في حاجة إلى مزيد بيان.

أما الدروس الأولية فهي لا تقل وضوحا في بساطة مضامينها ووضوح عبارتها وكمال بلاغتها كما يقول علماء البلاغة والأصول. هذه الدروس أربعة تقوم، جميعها، في الكشف عن نهاية أيديولوجيات صارعت الموت عقودا عديدة فبلغت اليوم آجالها وفي الإبانة عن تهافت أوهام ومخاوف كاذبة سكنت النفوس مدة ليست بالقصيرة أيضا.

نهاية الأيديولوجيات وكذب الأوهام يمكن استمدادها من غيابها في «ميدان التحرير»: من هتاف الشباب، ومن اللافتات المرفوعة.

الدرس الأول أو الأيديولوجيا الأولى التي تعلن عن نفسها بغيابها عن الساحة العربية مطلقا (في كل من تونس ومصر) هي تلك التي تتصل بالقومية العربية أو، بالأحرى، نظريات القومية العربية في صيغتها الأكثر تأججا وحضورا في ستينات وسبعينات القرن المنصرم: الناصرية والبعثية. غابت شعارات الوحدة العربية، والقومية العربية وما يتصل بهما من شعارات التحرر والاشتراكية والأمة. بيد أن حضورا قويا، هادرا، سجله وعي عربي قوي، بل إن الساحة كشفت عن عمق في هذا الوعي سجله الانكباب على وسائل الإعلام كلها (والتلفزيون في مقدمتها) على متابعة ما يجري في إشفاق وتطلع معا.. فالحق أن المتابعة تلك لم تكن هم النخب العربية وحدها، بل إنها كانت وعيا عربيا شاملا بها.

الدرس الثاني (أو الأيديولوجيا الثانية التي تعلن عن نهايتها بغيبتها المطلقة عن الساحة العربية) هي تلك التي تتصل بالماركسية وقاموسها ومرجعياتها: كذلك لم يكن هنالك ذكر لمعاني الصراع الطبقي، الإمبريالية، والاستقلال الرأسمالي، والبروليتاريا.. فشتان بين غياب مطلق اليوم وحضور كاسح في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

الدرس الثالث (أو الأيديولوجيا الثالثة التي تعلن عن انعدامها في الساحة العربية وغيابها المطلق عن أوساط الشباب، عكس ما يتوهم البعض أحيانا) هي تلك التي تتصل بحركات السلفيات الجهادية من جهة، وبما يشتم منه حضورا أو نفحه «شيعية» من جهة أخرى.

الدرس الرابع: هو انهيار إيديولوجية هجينة مدار القول فيها أن الشباب لا يعرف ما يريد على وجه التحديد، لأنه شباب لاه منصرف عن السياسة والشأن العام بالكلية. الوهم في هذه العقيدة الأخيرة يكمن، من جهة أولى، في الفصل بين مطالب العمل والكرامة والحرية والسياسة. ويكمن، من جهة ثانية، في العجز عن إدراك المعنى الذي يقوم في التشبث بمطلب الدولة الديمقراطية المدنية.

في هذا الدرس الأخير، خاصة، رسالة يوجهها الشباب العربي، بتوسط الشبيبة المصرية وشقيقتها التونسية، إلى الرؤساء في بلدانهم وإلى دول العالم كافة. والسؤال العملي والعاجل معا: هل يملك المخاطبون، في أصنافهم المختلفة، القدرة على التقاط الرسالة؟