أي ديمقراطية عربية؟

TT

في زمن تعصف فيه رياح التغيير بالديكتاتوريات العربية، وتثبت فيه أحداث تونس ومصر أن التغيير السياسي ليس وقفا على المتشددين والأصوليين، كما كانت تروج الديكتاتوريات لمد عمرها في السلطة، يفترض في الشارع العربي المنتفض على الديكتاتورية أن يستشهد ولو بنظام ديمقراطي واحد في العالم العربي كمثال بديل لـ«حكم الشعب باسم الشعب».

أحداث العالم العربي تطرح اليوم سؤالا كبيرا: أي ديمقراطية عربية - إن وجدت - تصح أن تكون بديلا واعدا للمنتفضين على السلطوية والقمع؟

بادئ ذي بدء، لا بد من التذكير بأن أقصى ما يمكن للأنظمة العربية المتجلببة بلباس الديمقراطية أن تفتخر به هو تحويلها «الديمقراطية» إلى مطية لمد عمر العائلات الحاكمة في السلطة قبل النظام القيمة عليه.

عمليا، أنظمة العالم العربي شبه الديمقراطية لا تخرج عن كونها ديكتاتوريات مقنعة ومجملة بتسميات شعبية وجماهيرية هي أبعد ما تكون عن مضمونها الحقيقي. حتى أكثر الآليات الديمقراطية ضرورة، أي الانتخابات المباشرة، حولتها هذه الأنظمة إلى عمليات «تعيين بالاقتراع الشعبي»، ووسيلة من وسائل رشوة النظام لحوارييه.

مع ذلك، واعتمادا على مؤشر الانتخابات المباشرة، تعتبر العواصم الغربية أن أقرب الأنظمة العربية إلى الأداء الديمقراطي، حاليا، دولتان هما لبنان والعراق. ولكن، حتى في حال اعتماد التعريف الغربي للدولتين، يصعب الادعاء بأنهما تشكلان قدوة للمنتفضين على الأنظمة السلطوية، أو حتى مثالا مرحليا للحكم.

في العراق، ورغم «الحضور» العسكري والسياسي للدولة الديمقراطية الأكبر في العالم، أثبت تطبيق العراقيين للآلية الديمقراطية أنه لا يشمل، بمفهومهم، مبدأ التداول الطبيعي للسلطة حتى ولو كان مستندا على نتائج انتخابات برلمانية شفافة ونزيهة.

في العراق، تغير النظام ولم تتغير الذهنية السائدة منذ عهود الحكم الشمولي: من كان على رأس السلطة باق في السلطة على رؤوس الأشهاد والعباد.. وبأي ثمن كان.

قد يكون عذر الديمقراطية العراقية أنها تجربة حديثة العهد لم يعتد السياسيون، بعد، على تقاليدها وموجباتها. ولكن ما هو عذر لبنان، المتمرس في العملية الديمقراطية منذ أكثر من ستة عقود، في تحويله النظام الديمقراطي إلى نظام «إقطاعات» سياسية ومراكز قوى طائفية تكرس وجودها، وتجذره، في كل موسم انتخابي؟

في هذه المرحلة التي تؤشر إلى تحول متنام في الذهنية السياسية العربية، كان يفترض بلبنان أن يشكل المثال العربي الحاضر والجاهز للنظام الديمقراطي العامل والمزدهر.

ولكن، لو كان الشيء بالشيء يذكر في عالمنا العربي القلق، لسبق اللبنانيون شعوب دول الجوار في الانتفاض على الفساد والمحسوبية والبطالة والتمييز المذهبي.. وتحديدا على استمرارية النظام الواحد رغم تبدل أسماء وجوهه.

في لبنان، كما في مصر، شعب شابّ في غالبيته (43% دون الخامسة والعشرين)، ناقم في قرارة نفسه على وضع بلده المتردي باستمرار.. وشبه معدم في إمكاناته المادية الذاتية.

ولكن لبنان، خلافا لدول الجوار، تحول بفضل بعض «عقائدييه» الموالين للأنظمة الشمولية إلى «حمال الأسية» في العالم العربي بعد أن رهنوا تحديث نظامه السياسي بتحرير الجولان ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا أولا... والجليل الأعلى مؤخرا، وأجبروا اللبنانيين على التغاضي «عن ظلم ذوي القربى»، والاستكانة للأمر الواقع في الداخل بانتظار الفرج الآتي يوما ما من الخارج.

ستة عقود انقضت على نظام الطبقية المذهبية في لبنان - المسمى، مجازا، بنظام التمثيل الطائفي – دون أن يواجه مطالبة شعبية جدية بإسقاطه، رغم قناعة الكثيرين بأن «واجب» الالتزام بـ«الكوتا» المذهبية تحول إلى عائق «دستوري» يحول دون بلوغ الكفاءات مواقع الحكم والإدارة.

مؤسف أن يكون لبنان، في هذا التقاطع الزمني الدقيق، أسوأ مثال للتطبيق الديمقراطي في العالم العربي.