مصر الحرة الديمقراطية.. هي مصر الأقوى

TT

«الخيال أهم من المعرفة»: قولة مأثورة عن أينشتاين. وتفسير ذلك عنده: «أن المعرفة محدودة بما نعلمه الآن، أما الخيال فيشمل كل العالم الذي نعيش فيه». الخيال أهم من المعرفة لأنه هو الذي يهدينا لأنجع الطرق التي نستفيد بها مما في أيدينا من المعارف. نتحقق من ذلك عندما ننظر إلى ما أنجزته البشرية في العشرة آلاف سنة الماضية منذ أن امتلك الإنسان سر النار.

تأسيسا على هذه الحقيقة، يصح عندي قول من قال: «إن أخطاء الإنسان في جوهرها أخطاء تقصيرية، ناتجة عن فشله في أن يتبين البدائل والخيارات المتاحة أمامه». هذا الفشل في تصور البدائل الأفضل هو الذي دعا البشرية في حقبة من تاريخها لأن تستجيز العدوان على الشعوب الأخرى واستعبادها، أو أن تقر ممارسة التعذيب.. إنها ببساطة مشكلة خيال.

ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات والدول. فكما يفشل الأفراد، تفشل الجماعات والدول في تصور بدائلها الأفضل. هذا تحديدا هو الخطأ الذي وقعت فيه كثير من النظم العربية. وهو الخطأ الذي وقع فيه النظام المصري قبل أن تدهمه الثورة الشعبية. هو الخطأ الذي يمكن أن تقع فيه جميع الأنظمة والحكومات: الفشل في رؤية البدائل الكثيرة القابعة تحت أنفها.

أول مصادمة مهمة مع العصر وتياراته حدثت لمصر في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون. صحيح أن نابليون جاء مستعمرا يضع بين عينيه مصالح فرنسا الضيقة، لكن غزوته لم تكن محض حملة عسكرية. ضمت جيوش نابليون مئات العلماء الذين كتبوا قواميس عن مصر: أرضها وناسها وآثارها ونباتها وحيوانها. منذ تلك اللحظة لم ينقطع المجتمع المصري عن مكابدة التحولات العصرية. انكشفت النخبة المصرية يومئذ أمام تيارات ما صار يعرف بالاستنارة الأوروبية. ومن المفارقة أن الذين قادوا حملة التوافق مع منتجات المعاصرة تلك، أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، خرجوا من داخل أكبر مؤسسة محافظة هي الأزهر الشريف.

لكن الذي أحدثته ثورة 1952 فاق ما سبق من تحولات. لم يكن أهم ما طرحته ثورة 1952 هو مشروع الوحدة العربية البرّاق. كانت ثورة التعليم التي أطلقها عبد الناصر أبعد أثرا في المجتمع المصري من مشروعات الوحدة التي لم تخلف إلا جراحا عميقة. وجراء تلك الثورة، تعلم من أبناء مصر خلال الأعوام الستين الماضية ملايين كان مصيرهم الحتمي، لولا ثورة التعليم، أن يبقوا مواطنين ريفيين يكررون حياة آبائهم، وأجدادهم، وأجداد أجدادهم من قبل. ومن بين هؤلاء الملايين ضرب مئات الآلاف في فجاج الأرض يطلبون الدرجات العلى من العلوم والمعارف في حواضن العلوم المعاصرة في الجامعات الأجنبية. تقلد كثير من هؤلاء المناصب الرفيعة في المؤسسات الدولية، ونال بعضهم اعترافا لم ينالوه في بلادهم، بل إن أشهرهم نال جائزة نوبل في الكيمياء.

تضخمت النخبة المصرية التي بدأت تتفوق على مؤسسات السلطة في بلدها وعيا وقدرة وتواصلا عالميا. وظلت هذه التحولات الكبرى تجري تحت سمع أهل السلطة وبصرهم، لكن لم يسعفهم الوعي أن يدركوا حجمها ودلالاتها. أزمة خيال أخرى.

دعونا الآن نضرب عن ملاحظة المشهد المصري إلى ملاحظة المشهد العالمي. في بداية السبعينات كتب كاتب أميركي (آلفن توفلر) سفرا سماه «صدمة المستقبل». وقصد بذلك الكتاب أن ينبه نخبة مجتمعه من الساسة والمثقفين والعسكريين ورجال الأعمال والفنانين، وحتى الرجال العاديين، إلى ما يحمله لهم المستقبل من مفاجآت لا تطيق عقولهم إدراك آثارها عليهم. تحدث الكتاب، الذي سجل مبيعات قياسية، عن ثورة التقانة والاتصالات وإلى أي مدى يمكن أن تغير حياة الناس، لكن الكاتب في أشد خيالاته تطرفا لم يتصور ما أحدثته التقانة وأدوات الاتصال في حياة البشر جميعا بعد كتابه بأربعين عاما. فما الثورة التي أحدثتها التقانة؟

قبل ثلاثين عاما عثرت على نص أعجبني. ثم ضاعت مني بعض عبارات ذلك النص ومصدره، فضقت لذلك ضيقا شديدا. ثم هداني تفكيري قبل بضعة أعوام أن أدخل الجزء الذي تبقى لدي من النص في إحدى ماكينات البحث في الإنترنت، لأتلقي صدمة من السعادة، إذ عادت إليّ ماكينة البحث بالنص كاملا ومصادره. لقد تحققت بصورة عملية مما ظل يردده «المستقبليون» من أن التقانة الحديثة ما تنفك تضيف امتدادات لا متناهية لوعي الإنسان. الآن أصبحت قدرتنا على ولوج مصادر المعرفة تتضاعف وتتضخم يوما بعد يوم. أصبحنا ندخل، بكبسة زر لا تستغرق ثواني، إلى كل المكتبات العالمية، وكل الموسوعات والقواميس، والكتب السماوية وغير السماوية بشروحها وحواشيها، وبكتب الفلاسفة الإغريق والمسلمين والمعاصرين، وبكل دواوين الشعر المكتوبة بالعربية والإنجليزية والفرنسية والسواحيلية، وبقصص الأطفال والكبار، وبكل خرائط العالم الجغرافية والمناخية وغيرها، والصحف في كل بلد في يوم صدورها، وقنوات الإذاعة والتلفزيون بجميع اللغات الحية وغير الحية. بل أصبحت حدود وعينا وقراءتنا تتعدى اللغات التي نفهمها أو نتحدثها إلى تلك التي لا نفهمها ولا نتحدثها. بإمكاننا الآن أن نفهم نصا مكتوبا بالبرتغالية، أو الأردية، أو حتى الصينية، عبر خدمات الترجمة الفورية التي تقدمها كثير من ماكينات البحث وبرامج الترجمة المجانية المتاحة على الإنترنت. لقد أصبح تراث الإنسانية برمته متاحا لعقولنا الصغيرة نحن الأفراد. ثم برزت خلال هذا الكم المتلاطم من المعارف حقيقتان أضيفتا إلى صدماتنا الإنسانية البهيجة.

الحقيقة الأولى هي أن هذا الوعاء الضخم الحاوي لتراث الإنسانية يتزايد رواده وأعضاؤه من كل مشرب كل يوم بمتوالية هندسية. مئات الآلاف ينضمون كل يوم، فتُضاف بهم إلى احتياطي وعينا عقول جديدة، تحمل أفكارا جديدة. هذا المنتدى العالمي الضخم يقدم خدماته لجميع الناس: لرجل الدولة، والقائد العسكري، والعالم، والصحافي، والمهني، وربة المنزل، وعمال الصيانة، وشحاذي الطرقات.

الحقيقة الثانية، والأخطر، هي أن تلك العقول أصبحت لها قدرة على الارتباط التنظيمي عبر شبكات ما تفتأ تتنوع وتتبسط وتنفتح ليستخدمها جميع الناس. لم يعد متاحا لعقول البشر أن تسبح في فضاء لا متناه من العلوم والمعارف فحسب، بل أصبح بإمكانها أن تكوّن عقلا واحدا ضخما يفكر في آن واحد.. عقلا ليس كالحاسوب، لا يفعل شيئا سوى أن يطيع أوامر مبرمجيه، بل إنه عقل واحد ضخم يمتلك الاستقلالية والإرادة والقدرة على اتخاذ القرار.

ظلت هذه التطورات تجري بتواز، بعيدا عن إدراك النظم السياسية والحكومات بخيالها المتواضع: ازدياد التعليم، ونمو الطبقة الوسطى بشبابها بطموحاتهم وطاقاتهم المخزونة من ناحية، وانفجار الوعي والتطلع المسنود بقوة التقانة الحديثة من ناحية أخرى. حلف قاتل بين قوة الشباب وقوة العقل. كانت الساحة تنتظر حريقا هائلا؛ وحدث الحريق في مصر كما لم يحدث في أي مكان آخر، وبقية القصة تاريخ شاهدناه جميعا.

أقول حدث الحريق في مصر، لأن ما جرى في بعض الدول الأخرى لم يكن ثورة بالمعنى الحقيقي. بعضه كان ضربا من الحرب الأهلية: طوائف تقاتل طوائف، وقبائل حاكمة تبيد قبائل خارج الحكم، ومناطق تعادي مناطق بينها ثارات تاريخية. لكن ما جرى في مصر تميز بكونه تعبيرا عن إرادة وطنية جامعة تخطت الحدود الفاصلة بين الطوائف والملل والتصنيفات السياسية والاجتماعية، فاستحق بذلك أن يكون مقدمة لثورة أصيلة.

البشرى التي تحملها تلك التحولات المذكورة في وعي البشرية وقدراتها يمكن أن تعمل في الاتجاهين: في اتجاه تعرية النظم وإضعافها، وفي تقوية النظم وتعزيز مشروعيتها لو أحسن استخدامها. لكن المعضلة التي تواجه النظم السياسية هي أن طبيعة هذه التحولات تنحاز انحيازا فطريا نحو تعزيز الانفتاح والحرية. بكلمة أخرى، هذه التحولات بطبيعتها لا تقبل الاستخدام المعاكس من أجل الكبت والقهر وتحديد مساحات الوعي.

يمكننا الآن أن نتخيل مصر، البلد ذاته الذي تراجع دوره التاريخي بسبب عقم خيال ساسته، يتحول إلى دولة مجتمع حر ومفتوح وفخور بنفسه وواثق من مستقبله. إن الحرية تعمل من خلال تحرير الفرد أولا، وعندما يتحرر الأفراد تتحرر المجتمعات لتقدم أفضل ما لديها من عطاء. إذا بلغت الثورة في مصر مداها، ولم تجهض أو تسرق، وهو احتمال وارد، فإن ثمانين مليونا من البشر، يعملون في إطار مجتمع حر، سيتحولون إلى قوة دفع تحرك ماكينة ضخمة بإرادة حرة ومنظمة ومتناسقة. وبموقعها الجغرافي الفريد، وحجم سكانها، ومواردها البشرية، وبتاريخها الملهم، يمكن لمصر أن تصبح ماكينة تدير عجلة السياسة والاقتصاد في المنطقة وما وراءها. تحرير مصر لن يعني فقط تحريرها من عقدة القمح الأميركي والمعونات التي لم تزدها إلا فقرا، بل سيعني تحرير إرادتها لتؤدي وظائفها الإقليمية. ومصر الحرة الديمقراطية ستملك القوة المادية والأخلاقية لتعيد نظم علاقتها مع محورين رئيسيين في العالم الإسلامي: مع تركيا الحرة الديمقراطية، ومع إيران غير الطائفية والمتصالحة مع جوارها.

قيل: «القيادة استثمار في الأمل»؛ وأقول: «القيادة استثمار في الخيال النافع أيضا»، ومن أي الناحتين نظرت (الأمل أو الخيال) فستجد أن مصر الحرة الديمقراطية هي مصر أقوى وأنفع لأهلها وللأمة كلها.

* مستشار الرئيس السوداني والمسؤول الحكومي لملف دارفور