ليبيا الشهيدة.. وليبيا الشهادة للحرية

TT

أيا تكن مبررات التونسيين والمصريين واليمنيين والسوريين والجزائريين والسودانيين للتحرر من حكامهم الخالدين؛ فإن تلك المبررات تتضاءل قيمة وحجما إذا قيست بالمعاناة المستحيلة للشعب الليبي على مدى أكثر من أربعة عقود. فقد جاء القذافي ورفاقه من الضباط الصغار للسلطة عام 1969 بانقلاب عسكري بالطبع. والطريف أننا جميعا سررنا بذلك آنذاك، فقد كان التغيير في ليبيا والتغيير في السودان، مما حصل بعد عام 1967، وقد اعتقدنا أن هؤلاء «الثوار» الشباب سينضمون إلى مصر الكسيرة الجناح بعد النكسة أو الهزيمة، فيكون في ذلك تعويض عما حصل من خسائر، وتستعيد مصر، ويستعيد جمال عبد الناصر أنفاسهما، لاستعادة الأرض التي ضاعت. وما عكر علينا صفو تلك الخواطر الجميلة نحن الطلاب «الشوام» الذين كنا ندرس بالأزهر آنذاك، غير طالب ليبي معنا كان متقدما في السن، وقد أرهقناه بالعناق والتهنئة، فجمع عددا منا في غرفته بمدينة البعوث (مدينة الأزهر الجامعية)، وأدار معنا الحديث التالي:

- لماذا أنتم فرحون هكذا بالحدث الليبي؟ هل تعرفون المشاركين أو بعضهم؟

- لا، لا نعرف أحدا منهم، وكيف سنعرفهم إذا كان المصريون قد قالوا إنهم لا يعرفونهم. بيد أن أول شيء فعلوه مجيئهم إلى القاهرة بعد أسبوعين على الثورة، وهم شديدو الحماس للعروبة والإسلام! وسوف يساعدون مصر بالتأكيد، فليبيا دولة بترولية!

- وأنا أيضا لا أعرف أحدا منهم، فأنا لم أذهب إلى ليبيا منذ سبع سنوات. لكنني متردد في التأييد والحماس رغم فهمي لاعتباراتكم، ذلك أن مليكنا السابق كان رجلا صالحا، وهو من أسرة مجاهدين ضد الطليان والفرنسيين والبريطانيين. وقد توحدت بلادنا (طرابلس وبرقة وفزان) بمساعيه ومساعي الاستقلاليين المناضلين، وملكيتنا دستورية. وقد بدأ مجتمعنا السياسي ينتظم، وتجري عندنا انتخابات حرة، وظهر البترول فبدأت حكوماتنا تستعين به على البناء والتنمية. وقد كان الملك (ونصف أسرته بمصر) يساعد، والعلاقات حسنة. ونحن نعتبر أنفسنا جزءا من الشعب المصري. وكما قلت فأنا لا أعرف شيئا عن هؤلاء الشبان. لكنني شديد التشكك فيهم، إذ إنهم منذ اليوم الأول بدأوا بشتم الملك وحكوماته واتهموها بالفساد ومخامرة الاستعمار. وإذا قسنا ما سيجري بليبيا الثورية على ما جرى بسورية والعراق والسودان، فلن نشهد انتخابات حرة بعد الآن، ولن نعرف ما سيجري لثروتنا الوطنية، ولكرام الناس، وأهل الدين بالبلاد!

- الانتخابات غير مهمة، لكن لماذا تخاف على كرام الناس وأهل الدين؟!

- لأن هؤلاء يخشون من نفوذ السنوسيين الديني. فالسنوسية طريقة صوفية مقاتلة نشأت في أواخر القرن الثامن عشر، وامتدت ما بين الجزائر ومصر والحجاز وليبيا، وأنشأت مستعمرات زراعية، وفرقا مقاتلة صارعت بها الاستعمار في كل مكان في أفريقيا، وكل ذلك باسم الدين. ومن هؤلاء أحمد الشريف (السنوسي)، وعمر المختار. وإذا لم تكونوا تعرفون؛ فإن أهلنا يخبرونني أن هؤلاء الثوار بدأوا يخلطون بين السنوسية والإسلام، فيشكون في كل أحد يصلي، لأنه إما أن يكون سنوسيا، أو إخوانيا!

وما صدق أكثرنا ما قال الشاب الليبي، ومات جمال عبد الناصر، وحل القذافي محله في اعتباره هو على الأقل، ولدى الكثير من الناصريين. ومنذ منتصف السبعينات، بدأنا نسمع أشياء غريبة عن القذافي وإجراءاته، بيد أن هذا السماع صار يقينا عندما بدأت أذهب إلى ليبيا بعد عام 1979 بسبب عملي بمعهد الإنماء العربي، ويومها كان التخريب قد تمادى ليبلغ في أواخر الثمانينات ذروة غير مسبوقة، اختلطت بالتخريف والخرافة وكراهية النفس والآخر، وخنزوانات الكتاب الأخضر (الذي يرى فيه مؤلفه القذافي على سبيل المثال، أن الفرق بين الرجل والمرأة، أن المرأة تحيض والرجل لا يحيض! هل تجدون ما هو «أذكى» وأكثر عبقرية من هذا الاستنتاج؟!)، والعدوان على الليبيين والعرب الآخرين فردا فردا، وبحجة ومن دون حجة. فقد ألغى الحكومة والإدارة، وهدم المرافق العامة، واحتكر أموال النفط هو وأعوانه ولجانه الثورية، وشن حروبا على مصر، والمملكة العربية السعودية، وتونس وموريتانيا، والسودان (هو أحد صناع جون قرنق)، وأقطار أفريقية كثيرة. أما بالداخل وباسم سلطة الشعب؛ فإنه منع العمل الخاص، أي عمل خاص، وجوع الشعب الليبي، وقتل أحراره، وهدر دماء شبابه. وأنفق بلايين الدولارات في مصارعة الغرب، ثم أنفق على ذلك الغرب عشرات البلايين من أجل التصالح. وهو عندما يزول الآن، لن يحزن عليه هو وأولاده وأحفاده وزبانيته غير الأميركيين والأوروبيين، وعلى الخصوص صديقه العزيز برلسكوني!

وليبيا بلد عربي عزيز عزيز، وقد عانى من الاستعمار ما لم يعانه شعب عربي آخر باستثناء الجزائريين والفلسطينيين بالطبع. فقد كان من سوء حظ الإثيوبيين والليبيين أن الطليان الذين استفاقوا على مناعم الاستعمار متأخرين، طمعوا بالاستيلاء على كل من ليبيا وإثيوبيا. وقد هاجموا ليبيا بالفعل عام 1911، وكانت سواحلها لا تزال جزءا من الدولة العثمانية. وقد هبت للدفاع عن ليبيا - في نضال استمر حتى الثلاثينات من القرن العشرين - القوة السنوسية. بزعامة السيد أحمد الشريف السنوسي. وما كان أحمد الشريف قد انتظر مجيء الطليان لكي يبدأ كفاحه؛ بل إنه بدأ بمصارعة الفرنسيين والبريطانيين في أعماق أفريقيا، ولجهة مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر. وأحمد الشريف هو الذي استخلف عمر المختار ابن الطريقة السنوسية، على جزء من الجبهة بعد عام 1916، إلى أن انفرد بها بعد أواسط العشرينات، ولحين استشهاده رحمه الله عام 1931، وقد جاوز السبعين من عمره. على أن الليبيين ما عرفوا المقاتلين العظام من أمثال أحمد الشريف ورمضان السويحلي وعمر المختار وحسب؛ بل عرفوا أيضا القادة المدنيين الإصلاحيين الذين انتشر ذكرهم ما بين الجزائر ومصر، وأعلنوا الجمهوريات وأقاموها من مثل السويحلي والباروني. ولذا، ورغم أنهم فقدوا في مدنهم وباديتهم ما لا يقل عن النصف مليون قتيل خلال أربعة عقود من الكفاح السياسي والمسلح؛ فإنهم أقبلوا منذ مطلع الخمسينات على إقامة الدولة المدنية الحديثة والموحدة، التي قصفت عمرها وهي في ريعان الفتوة مجموعة من صغار الضباط، في الجيوش التي أنشأتها دولنا لتكون سندا وحاميا، فصارت عبئا على مدى أربعة أو خمسة عقود.

والذي جرى لليبيا، جرى مثله على السودان، وعلى سورية، وعلى العراق، وعلى الجزائر، وعلى تونس، وعلى اليمن، وعلى موريتانيا، وعلى الصومال. يقوم عشرة من هؤلاء أو أكثر أو أقل، وفي غبش الصبح، بالاستيلاء على الإذاعة وقيادة الجيش، ثم تبدأ المارشات العسكرية، والبيانات الثورية بالحرية والتحرير. ولا شيء بعد ذلك غير التعرض لحياة الناس وحرياتهم وكراماتهم، ونهب الثروات، والتخادع والانخداع لدول الاستعمارين القديم والجديد. وكما سبق القول، ورغم أن الظاهرة تكررت في أكثر الدول العربية؛ فإن ليبيا خصت بنوع نادر من هؤلاء الناس، فاق الجميع جنونا، وإجراما وتفوق على نفسه والآخرين في هول ما جنى ويجني!

نزل الذعر بالعقيد القذافي منذ تحرك الشعب التونسي. ولذلك فقد كان هو الوحيد الذي صرح بالأسى على الرئيس بن علي.

لقد وحد الليبيون بلادهم الشاسعة والرائعة قبل عقدين على إصابتهم بكارثة القذافي. وتحملوا المر وما هو أمر، من القذافي وأولاده، ولجانه الثورية، لكي يبقى لهم بلدهم وتبقى لهم وحدتهم، ولا يصيبهم ما أصاب العراقيين من جراء أهواء صدام حسين وغزواته وحروبه. وسيبقون بعد القذافي وأولاده وأحفاده، كما بقوا وسادوا بعد موسوليني وغرازياني، «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».