ليبيا: نهاية الأوهام

TT

اسأل أي شخص عما يعتقد أنه أكثر الأنظمة غرابة في العالم، ومن المؤكد أن الإجابة ستكون كوريا الشمالية. لكن إذا أمعنت التفكير فإنه قد يهديك لنظام آخر أكثر غرابة: ليبيا.

وليبيا تعد واحدة من ثلاث دول فقط من بين 190 عضوا بالأمم المتحدة لا تملك دستورا (الدولتان الأخريان هما إسرائيل وكوريا الشمالية).

عن ذلك، أخبرني الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي خلال مقابلة بيننا عام 1975 أثناء انعقاد قمة إسلامية في لاهور بباكستان: «نرغب في تطوير نموذج للحكم خاص بنا. وستصبح ليبيا نموذجا أمام العالم».

وبعد أكثر من ثلاثة عقود ومع انتشار الثورة في جميع أرجاء ليبيا، قد يتساءل المرء لأي مدى نجح العقيد. لقد تولى رعاية وحش غريب يدعى الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، ليضمن بذلك مكانا في موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية باعتبار هذا الاسم الأطول من نوعه لبلد في التاريخ.

كما كان أول مؤلف بالتاريخ يبني تماثيل لـ«الكتاب الأخضر» في جميع أرجاء البلاد، فحتى ماوتسي دونغ لم يكن على نفس الدرجة من التهور في فرضه «الكتاب الأحمر الصغير» الذي ألفه.

ويبقى أمر واحد مؤكد أنه في الكثير من جوانبه، نجح العقيد في التفوق على كوريا الشمالية، لكن ليبيا لم تتحول إلى نموذج أمام العالم، وإنما أصبحت علامة تحذير.

تملك كوريا الشمالية رئيسا للدولة، أما ليبيا فليس بها ذلك، بل «زعيم أعلى»، وهو لقب يكتنفه الغموض، ويحمل سلطات لا حصر لها من دون أي مسؤوليات.

وعلى خلاف الحال مع كوريا الشمالية، لا تملك ليبيا حكومة واضحة المعالم، رغم أنها تضم أشخاصا يعملون كما لو كانوا وزراء ومحافظين.

خلال الأيام القليلة الماضية، شاهدنا القذافي، ومع أبنائه، يمارسون أدوارا «تبدو» رسمية، يحاولون من خلالها قمع الثورة التي اجتاحت البلاد. وتحولت ليبيا بأكملها لبلاد «تبدو» مجتمعا، فهناك كل شيء يشبه الصورة التي يفترض أن يكون عليها، لكنه في حقيقته ليس كذلك.

في جوهر الأمر، لا يوجد ما يسمى دولة ليبية، وإنما ما يوجد هو صورة مجازية تبدو وكأنها دولة. لقد كان مشروع القذافي هو تدمير الدولة الليبية. واليوم، بات واضحا أنه نجح، فبعد 42 عاما ومع انتشار جثث القتلى في شوارع طرابلس وبنغازي والبيضاء وطبرق، عدنا للسياسات القبلية.

تملك كوريا الشمالية جيشا، رغم نقاط قصوره الواضحة، فإنه سبق اختباره بميادين القتال. ورغم أن الكثير يعتقدون أن ليبيا تخضع لحكم المؤسسة العسكرية، لكن الحقيقة أن ليبيا لا تملك جيشا.

بالتأكيد هناك أفراد يرتدون زيا رسميا يشاركون في عروض عسكرية ويحملون أسلحة تم شراؤها من الخارج. إلا أن كل ذلك ينتمي لعالم الأوهام والتخيل.

على الورق، تبدو ترسانة ليبيا من الأسلحة مبهرة. وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، اشترى العقيد نحو 2000 طائرة مقاتلة من فرنسا والاتحاد السوفياتي السابق. لكن جميع هذه الأسلحة تتعرض للتلف والتحلل الآن من دون أن تستخدم في حرب.

وقد اشترى العقيد أسطولا جديدا، ومجددا تركه ليصدأ. وبالنسبة للقوات البرية، اشترى العقيد آلاف الدبابات.

وعلى الورق، كان صدام حسين الوحيد بالمنطقة الذي يملك عددا أكبر من الدبابات. واليوم، ما تملكه ليبيا لا يعدو سوى جبل من المعدن الخردة. لقد أنفق العقيد أكثر من ملياري دولار لاختطاف قطاع أوزو من تشاد المجاورة، لكنه فشل. ولا يعني ذلك أن مستوى الجنود والضباط الليبيين كان أقل من نظرائهم التشاديين، وإنما أخفقت ليبيا لأن العقيد عمد باستمرار لتطهير صفوف الجيش من الضباط الأكفاء، مع فرضه عقيدته الاستراتيجية الطفولية التي قام بصياغتها.

وبالمثل، يعد الاقتصاد الليبي أمرا افتراضيا أيضا. نظريا، من المفترض أن تكون ليبيا واحدة من أغنى دول العالم، فطبقا لتقديرات البنك الدولي، توافر لدى العقيد منذ توليه زمام السلطة عام 1969 قرابة تريليون دولار لسكان بلغ عددهم أقل من ثلاثة ملايين نسمة. (على مدار الأعوام الـ42 الماضية، تضاعف عدد الليبيين لنحو 6.5 مليون نسمة)

ومع ذلك، فإنه فيما يتعلق بالدخل بالنسبة للفرد، جاءت ليبيا عام 2010 في المرتبة الـ83 على مستوى العالم. عام 1984، كان الدخل الليبي بالنسبة للفرد سنويا 8500 دولار، مما يعادل المعدل المناظر في المملكة المتحدة. عام 2008، بلغ هذا الرقم بالنسبة لليبيا نحو 12000 دولار، بينما جاء الرقم ذاته بالنسبة للمملكة المتحدة أدنى قليلا عن 40000 دولار.

منذ عام 1984، تعرض الاقتصاد الليبي «الافتراضي» إما للانكماش أو الجمود غالبية الوقت. وفي السنوات الأكثر رخاء، مثل عام 2007، لم يتجاوز النمو 3 في المائة. والعام الماضي، انكمش الاقتصاد الليبي بمعدل 1 في المائة. ولدى زيارتي مالطا برفقة صديق ليبي، أصابتنا الصدمة لدى رؤيتنا ليبيين يتسولون في شوارع فاليتا.

وشهريا، تلقي الشرطة الإيطالية البحرية القبض على عشرات الليبيين الذين يحاولون التسلل سرا إلى أوروبا بحثا عن مستقبل أفضل.

على مدار العقد الماضي على الأقل، بلغت البطالة في ليبيا نحو 30 في المائة. وتصل البطالة في الفئة العمرية بين 16 و25 عاما إلى 50 في المائة.

وينظر العقيد لنفسه كرجل من عصر النهضة، شخص بإمكانه أن يكون جنديا وشاعرا وفيلسوفا ومهندسا وروائيا وسياسيا في ذات الوقت، بل وأصر على كتابة سيناريو مسلسل تلفزيوني قام بتمويله حول زعيم ليبي ثوري أسطوري.

وكان يغدق الأموال على من يثنون على شطحاته، فمثلا حصل مراسل تلفزيوني أميركي على 100.000 دولار نظير كتابة مقدمة لقصص قصيرة لا تستحق القراءة كتبها العقيد.

أما الإيطاليون الذين يبدو أنهم بارعون في مثل هذه الأمور فقد أقنعوا العقيد بإنفاق مليار دولار على سيارة سباقات يفترض أنه هو من صممها، لكن السيارة لم تصنع وغادر بعض الإيطاليين ليبيا أكثر ثراء من ذي قبل.

ممارسة دبلوماسية الإغداق في الإنفاق وضعت أكثر من عشرين ديكتاتورا أفريقيا على قائمة رواتب العقيد فكان يطمح لأن يصبح أول رئيس للاتحاد الأفريقي على غرار «افتراضي» للاتحاد الأوروبي.

كان العقيد قد برز خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي كأكبر ممول للكثير من الجماعات الإرهابية في العالم. حتى في هذا الأمر، كان العقيد غريب الأطوار فيه أيضا، فعندما عملت هذه الجماعات وفق إرادته قام ببيع أسرار الجماعات التي مولها إلى أعدائهم. وفي بعض المناسبات، كما كان الحال في قضية موسى الصدر، الملا الإيراني الذي برز كزعيم لفصيل شيعي لبناني، اختفى المستفيدون من كرم العقيد في محيط رمال ليبيا.

في عام 1999 كنت قد التقيت شخصيا بسيف الإسلام القذافي الابن المفضل للقذافي لإجراء مقابلة معه في لندن. وقد قال لي سيف الإسلام نفس ما قاله لي أبوه قبل 24 عاما «نحن في طريقنا إلى كتابة دستور!».

وبعد 12 سنة، وتحديدا ليلة الأحد الماضي، في الوقت الذي تحولت فيه طرابلس إلى ساحة للقتال كرر الابن نفس الوعد على شاشة التلفزيون.

وصل العقيد إلى سدة الحكم في ليبيا عبر انقلاب خلال فترة شهد فيها العالم العربي فصلا للانقلابات، وقد أظهر الشهران الماضيان تغير هذا الفصل. واليوم تبدو ليبيا متزامنة مع العصر. وبينما أكتب تلك السطور، اتصل بي كاتب بريطاني ليسألني عما إذا كنت أعتقد أن القذافي سيواصل التشبث بالسلطة حتى الأسبوع المقبل، أجبته بسؤاله: «وهل كان القذافي مسؤولا في المقام الأول، أم كان ضحية أوهام تخيلها لسراب ما يسمى بالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى؟».