مع هبوب الرياح الساخنة والأعاصير والرعود العربية، تبدلت المواقف واختلطت الأوراق، تغيرت اللهجات والإيقاعات والمواقع.
هذا ليس غريبا، وهو رد فعل متوقع خصوصا أن البعض من نجوم المجتمع ومن يقتاتون على وجود طاقة الإعجاب الجماهيري ليس بمقدورهم الهدوء أو أخذ الفرصة الكافية للتأمل أو حتى - وهو الأسوأ - القدرة على اتخاذ موقف يخالف التوجه العام الجماهيري الذي لا يريد إلا أن تقول ما يقول وتردد ما يردد وتنحاز إلى من ينحاز.
تحديد ماهية هذا الجمهور أو التعرف على الناطق الحقيقي باسمه أمر صعب وغامض، ولذلك تتسع الهوامش التي يتحرك فيها من يدعي أن هذه هي رغبة الجماهير العربية وهذه هي مطالبهم والكل يتبرع بالحديث نيابة عنهم ويلبسهم الملابس التي يريد. يفعل ذلك الإخوان المسلمون، والتيارات القومية واليسارية، أو الخاسرون من الأنظمة السابقة أو حتى ركاب الموجات المحترفون الذين لا يؤمنون في دواخلهم بأي قضية في الوجود إلا مصالحهم المباشرة.
أيضا تحاول دول في الإقليم توجيه دفة الأحداث وتفسيرها وفق الأجندة الخاصة بها، فهذا علي لاريجاني رئيس برلمان إيران، يصف ما يجري في المنطقة من ثورات جماهيرية بأنها دليل على عودة «الصحوة الإسلامية» في الشرق الأوسط، بل ويصل به الأمر إلى توبيخ مشايخ الأزهر بسبب عدم اشتراكهم في الثورة المصرية، والرسالة الخفية في هذا أن قم هي القلب النابض للصحوة التي يتحدث عنها لاريجاني. كما نشرت «سي إن إن» الأميركية.
المفارقة أن بقية الإسلاميين السلفيين، من حركيين وعلميين، يشاطرون لاريجاني أن ما يجري هو دليل على انبعاث الصحوة الإسلامية، وقد أصدروا بيانات حاليا بهذا الخصوص، لكن من المؤكد أنهم يختلفون بشراسة مع لاريجاني في تحديد موديل هذه الصحوة.
غير الإسلاميين مثل القوميين العرب يرون أن ما يجري في مصر وتونس وغيرهما هو دليل على عودة الروح الناصرية العروبية الوحدوية، وقد قرأت في جريدة «الخليج» الإماراتية، ذات النفس القومي، مقالة للكاتب سعد محيو، يرسم فيها مشاعره القومية على سبورة ميدان التحرير، وتذكر فيها الكاتب حديثا دار بينه وبين صاحب الجريدة المرحوم الناشر تريم عمران، وهو مثقف قومي، قبل بضع سنوات، في مقهى بيروتي حيث قال له تريم بأسى: لقد انتهى زمننا نحن أبناء الثقافة القومية، ليقول له الكاتب سعد محيو، الآن يا تريم عاد زمننا مع ميدان التحرير!
ناهيك عن رغبات أميركا وأوروبا التي ترى فيما يجري في العالم العربي بداية للعهد الديمقراطي الليبرالي، ووصلت السذاجة بأصوات من الكونغرس الأميركي إلى التنبيه من خطر «الإخوان» في مصر!
العناوين العريضة دائما تفلح في جمع كم كبير من الناس تحت بيرق هذا الشعار، لكن في العناوين الصغيرة تبدأ الخلافات، وتتضارب الإرادات، ليست القصة كلها بالنقاء الذي يعتقده البعض، هناك نقاء ورغبات صادقة بالثورة والإصلاح، لا شك في هذا، لكن الإنسان ليس مشاعر طيبة فقط، بل مصالح ومخاوف، والمجتمعات مثل الإنسان الفرد.
من أجل ذلك تختلف وسائل الإعلام العربية في لهجتها وطريقة تغطيتها من مكان لمكان، «الجزيرة» في أحداث البحرين غير «الجزيرة» في أحداث مصر، و«العربية» في ليبيا غير «العربية» في مصر أيضا.
لغة المصالح قوية كما لغة المشاعر أيضا، هذا هو الإنسان، والإنسان يطير دوما بجناحي المثال والمادة، هكذا كان وهكذا سيظل.