ورطة تركيا الليبية

TT

بارومتر العلاقات التركية - الليبية كان دائما في صعود وهبوط. وفي كل مرة كانت القيادات في البلدين تنجح في الخروج من المطبات والحفر بأقل الخسائر والأضرار. لكننا هذه المرة وبسبب انفجار الأوضاع في ليبيا، نجد أنفسنا فعلا أمام ورطة حقيقية تهدد مصالح تركيا التجارية والاستثمارية.

الأزمة هذه المرة لا علاقة لها باستفزاز أو إغضاب العقيد القذافي من قبل الإعلام التركي المنتقد أو أصوات في المعارضة السياسية تسخر من خيمته وناقته «مركز الثقل في أسلوب وأداء السياسة الخارجية الليبية»، فتحوله إلى بركان متفجر، يُجلس الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان على يمينه في خيمة الرئاسة في منتصف التسعينات لتوبيخه وتعنيفه بسبب السياسات التركية الإقليمية وتجاهل حقوق أكراد تركيا السياسية والاجتماعية والثقافية، مطالبا بانسحاب أنقرة من الناتو وقطع علاقاتها بإسرائيل، أو منتقد لا يرحم كما فعل عام 2005 عندما وقف في قمة الجزائر العربية يهاجم سياسة تركيا الإسرائيلية «التي كانت السبب الأكبر في تشجيع تل أبيب على المضي في غطرستها وتحديها للعالمين العربي والإسلامي» أو سياسي لا يهادن في بعض المواقف كما حدث أثناء زيارة وزير التجارة الخارجية التركي الأسبق كورشاد توزمان الذي عاد من طرابلس عام 2007 بيد فارغة وهو الذي كان يعد لتوقيع عشرات العقود والاتفاقيات التجارية والاستثمارية المشتركة بعد انتقادات شديدة اللهجة لنظام القذافي من قبل الإعلام التركي، فسارع الزعيم الليبي الغاضب لتذكيره بضرورة تصفية الحسابات مع بلاده عن حقبة وجود الأتراك في ليبيا حتى عام 1912 وتقديم التعويضات المادية والمعنوية عن هذه الفترة.

وجد رجب طيب أردوغان، الذي نجح بمهارة في الالتفاف على كل هذه الأزمات، فحل أولا ضيف الشرف على قمة سرت العربية الأخيرة حيث صفق له الرئيس الليبي وقوفا على الأقدام بعد انتهائه من كلمته في القمة، وتسلم ثانيا وقبل أشهر قليلة جائزة حقوق الإنسان من العقيد القذافي تتويجا لمرحلة جديدة من العلاقات، وجد نفسه - وبسبب هذا البركان الثائر في ليبيا - مطالبا من قبل المعارضة التركية بتحديد موقف سريع لا يقل عن كلامه المباشر للرئيس المصري حسني مبارك ودعوته للتنحي. ورغم أن الرئيس التركي عبد الله غل سارع لنجدة أردوغان بدعوته القيادات الليبية للإصغاء إلى صوت الشعب والجماهير، فإن أصواتا في المعارضة التركية تسأل أردوغان ما إذا كان ينوي إعادة الجائزة التي قدمها القذافي له، وتطالبه بألا يكون أقل قسوة في التعامل مع ما يجري ويدور في ليبيا عما قاله للرئيس الإسرائيلي بيريس في قمة دافوس قبل 3 سنوات «إنك تحسن القتل جيدا»، مدعومة (أي المعارضة) بذريعة ما قاله سيف الإسلام القذافي حول أنه لن يترك ليبيا بعد الآن للأتراك والطليان.

رد رجب طيب أردوغان كان بنفس الشدة، حيث سارع لتذكير هؤلاء بحجم المصالح التركية في ليبيا وعدد الذين ينتظرون أكبر عملية إجلاء تنفذها تركيا في تاريخها الحديث وورشات ومعدات بمئات الآلاف من الدولارات تستحق الحماية.

ليبيا عام 1974 كانت بين الدول القليلة التي وقفت إلى جانب تركيا إبان الأزمة القبرصية رغم كل حملات وانتقادات المجتمع الدولي، وكانت أيضا، ورغم تجميدها للتعويضات والمستحقات المالية لآلاف العمال الأتراك بسبب أكثر من أزمة في العلاقات الثنائية، السباقة في فتح أبوابها وأسواقها أمام المستثمرين ورجال الأعمال الأتراك منذ منتصف السبعينات وحتى اليوم، لا بل هي التي وقفت إلى جانب فكرة رفع حجم التبادل التجاري إلى 10 مليارات دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة، هذا إلى جانب دعمها للاقتراح التركي برفع تأشيرات المرور بين البلدين. من هنا لن يكون سهلا أمام هذه الكومة من الفرص والانفتاح الاقتصادي والتجاري بين البلدين فتح مكبرات الصوت وإعلان الحرب على القيادة الليبية التي ترفض الاستماع إلى ما يقوله الجمهور، الكلمة التي يحب أردوغان أن يرددها كثيرا، لكن أردوغان يعرف أيضا أنه لن يكون من السهل إدارة الوجه نحو الجانب الآخر من الطريق وتجاهل أعمال القتل التي تنفذ ضد المدنيين في شوارع طرابلس الغرب؛ فللدقة والحذر حدودهما في القاموس الدبلوماسي، وهذا ما عودنا عليه أردوغان دائما.