مشاهد متداخلة

TT

في الوقت الذي انشق فيه شرق ليبيا عن غربها وسط الدماء والحرائق، كان لدى الأخ القائد وعد واحد للجماهير: سوف يرسل الضباط الأحرار كلا إلى قبيلته لكي تشارك في الزحف المقدس. بعد 42 عاما على الفاتح العظيم ومجلس الثورة المؤلف من الضباط الأحرار، وفقا لتسميات تلك المرحلة، ها هو الأخ القائد يعيد كل ضابط إلى قبيلته وباديته. لكن أين يمكن العثور على الرفاق المؤسسين اليوم، وكيف؟ بعضهم قضى في ظروف غير غامضة، وبعضهم أبعد بطريقة ثورية مألوفة، وبعضهم هرب من تلقاء نفسه.. ولم يبق أحد سوى الأخ القائد، هو الثورة وهو المجد وهو الحرية.

كان الضباط الأحرار في نحو الثامنة والعشرين حين تركوا قبائلهم ليقيموا ما أعلنوه يومها ثورة اشتراكية تنادي بالوحدة العربية، فماذا سيكون ردهم بعد 42 عاما من دعوة الأخ العقيد؟ كنت أتمنى أن أسمع تعليق الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي كان أول من أوفده الرئيس جمال عبد الناصر إلى طرابلس، لكي نعرف ماذا سمع آنذاك، وما رأيه في الذي يسمعه اليوم، إذ يؤكد القذافي أنه ليس له سوى سلطة أدبية في ليبيا!.. وكنت أتمنى أن أقرأ رأي الأستاذ هيكل وهو لا يرى في ليبيا الجماهيرية الاشتراكية الشعبية اليوم سوى ثلاثة متحدثين باسم الدولة هم العقيد واثنان من أولاده. ترى أين ذهب الشعب الحاكم؟.. هل هذا ما وعده به القذافي؟

يزداد المشهد رعبا كل يوم في ليبيا. الشرق أصبح خارج «الجماهيرية» يدفن ضحاياه ويغسل الدماء من الساحات، والغرب منكسر ومحطم وخائف ومحاصر. كم جعل «ملك ملوك أفريقيا» المشهد في وطنه شبيها بالبلدان الأفريقية الممزقة. كم جعل العنف يبدو خيارا مثل خيارات القارة. ولا ندري إذا كان للعالم أن يضحك طويلا أو أن يبكي طويلا حين يقرأ أن رئيس الدولة الوحيد الذي اتصل بالأخ القائد متضامنا، كان رئيسة ليبيريا. كم تذكرنا يوميات ليبيا بمآسي العراق. لا أحد في الصورة سوى الرجل وولديه. الأقاليم تنزلق عن العاصمة، ورئيس الدولة يخاطب الماجدين والماجدات، ويقرأ على الناس القصائد، وهي على الأقل أفضل نوعية وصياغة من تلك التي قرأها الأخ القائد مرتين من منزله الذي دمر عام 1986، وهو المتحف التاريخي الوحيد المسموح به في ليبيا. الباقي صور الأخ القائد، في كل مكان «وكل زنقة». صور أضعاف أضعاف تماثيل صدام حسين. صور من أيام كان ملازما، وصور من أيام صار ملك ملوك أفريقيا، وصور وتماثيل للكتاب الأخضر، وصور لبلدة سرت مقر اتحاد أفريقيا العظيم. وثمة أيضا صورة نجله الأوسط ينفي للعالم كل المبالغات عن صور القتلى والموت والحرائق والدماء التي تملأ الساحات والأرصفة. كنا نسأل آخر أيام العراق: أي عالم يعيش هذا الرجل؟! كم هو مفزع تكرار المشاهد المرعبة.. وتكرار السؤال.