ليبيا.. «السلطة المطلقة.. مفسدة مطلقة»

TT

لسنا ليبيين، وأهل ليبيا أعلم بشؤونهم. لكن ما يجري في ليبيا يضطر المرء لأن يفتح فمه بالحديث عما يجري هناك من أهوال.

فالشعب الليبي يتعرض لـ«إبادة جماعية» يستخدم فيها النظام الليبي، وقيادته الأسلحة كافة: القنابل والمسدسات والبنادق والصواريخ والمدرعات والطائرات. وهي أسلحة إذا استعملت ضد مدنيين فإنها تكون شديدة الفتك، فادحة الخسائر البشرية، من قتلى وجرحى ومشوهين.. وهذه هي - بالضبط - الصورة الحقيقية لما يجري في ليبيا.

فهل نحن نشاهد معركة طاحنة بين بلدين متعاديين متحاربين: تجاوزا قوانين الحرب بفجورهما في القتل والتدمير؟

ليس الأمر كذلك. بل إنها حرب نظام مستبد مشبع بالتجبر والطغيان ضد شعبه! وهذه هي المأساة المفجعة.

وهي مأساة تنطق - في توكيد يقيني - بأن النظام الليبي الراهن لا يوجد له مثيل ولا شبيه في العالم العربي، بل في العالم كله.

فلا يوجد نظام يقصف شعبه بالطائرات القاذفة.

ولا يوجد زعيم يقول: أنا المجد.. أنا الوطن.. أنا التاريخ.. أنا الحاضر والمستقبل.. أنا كل شيء.. وأنه على بقائي يترتب بقاء كل شيء، وإلا فهو الخراب الكامل.

ولا يوجد زعيم يشتم شعبه ويحقّره ويقول له: أنتم جرذان.. أنتم سفلة.. أنتم سكارى محششون.. أنتم مقمّلون (من الإصابة بالقمل).. أنتم جراثيم.

فأي علاقة - من أي نوع - تربط حاكما هذا سلوكه، بشعب هذه مأساته؟

الشعب الليبي معروف بعزته وشجاعته وهما خصلتان تسلح بهما في مقاومة الاستعمار الإيطالي: تحت قيادة المجاهد الليبي الكبير عمر المختار.

ومن الحقائق السياسية التاريخية الثابتة: أن الاستعمار الإيطالي كان أسوأ أنواع الاستعمار في خسته ووحشيته وإهداره لكل قانون دولي وقيمة إنسانية. فهل استعار معمر القذافي هذا السلوك الاستعماري الذي طالما ندد به، وتباهى بتحرير ليبيا من بقاياه؟ وإلا فمن أين أتى بكل هذا الحقد والعدوان على شعبه؟!

ومما تستدعيه الذاكرة - ها هنا - أن موسوليني (الفاشي) الذي كان يستعمر ليبيا ويذلها ويقتل أو يغتال أحرارها، هذا الطاغية المستبيح لكل حرمة، قد تعاون الحلفاء على سحقه في الحرب العالمية الثانية فسحقوه سحقا، ومن ثم تحررت ليبيا من قبضته الكريهة الدموية المستبدة.

نحن - إذن - أمام نظام يشبه - في عتوه وفتكه - أسوأ أنواع الاستعمار.

ووفق المنهج الذي نعتمده - في التحليل والتفسير - نسأل دوما عن العلة أو السبب.. ما سبب هذا التسلط والجبروت الغليظ المسرف الذي تمارسه القيادة الليبية ضد شعبها؟

السبب الدفين هو أن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة».

ما السلطة المطلقة؟

هي اتخاذ القرار والموقف دون شورى قَبَلية، وبلا مساءلة ولا محاسبة بعدية.. فهذا النوع من السلطة يغري بـ«التأله»، بمعنى أن يتصور الحاكم المستبد نفسه بأنه يتمتع بخصائص الإله ويمارسها وهو يردد:

أ) «ما علمت لكم من إله غيري»!

ب) «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد»!

ولكي لا يحدث ذلك: اهتدت البشرية - بمقتضى تجاربها - إلى دساتير وقوانين تقيد سلطة الحاكم في اتخاذ القرار، وتقضي بمساءلته إذا ارتكب جرما في حق الأمة التي فوضته في إدارة شؤونها: في هذه الصورة أو تلك.

وفي الإسلام منهج كامل في هذه القضية الكبرى.. فثمة أوصاف وتعريفات عديدة - في القرآن - لـ«الاستبداد».. منها: التجبر.. والطغيان.. والاستكبار.

ولقد نقض القرآن: التجبر وسلوك الجبابرة:

أ) «وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد».

ب) «وخاب كل جبار عنيد»

ولما كان التجبر الاستبدادي شرا كله، ظلما كله، ظلاما كله، فإن الأنبياء والمرسلين قد عُصموا منه.. لماذا؟ لأنهم رحمة للناس. والرحيم لا يكون جبارا متسلطا مستبدا.

أ) عصم الله يحيى من أن يكون جبارا: «وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا».

ب) وعصم عيسى من أن يكون جبارا: «وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا».

ج) وعصم محمدا من أن يكون جبارا: «وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد».

ونقض القرآن الطغيان وأخبر بأنه سبب في هلاك الأمم والحضارات: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد».

ونقض القرآن الكبر والمتكبرين، إذ التكبر صورة من صور الاستبداد والطغيان:

أ) «فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة».

ب) «وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب».

والسؤال المنهجي هنا هو: لماذا نقض القرآن الاستبداد في صوره وتوابعه كافة؟

أولا: نقضه لأنه نقيض التوحيد الخالص لله جل ثناؤه فـ«لا إله إلا الله» تحرير عميق وشامل للضمير الإنساني وعقله من كل عبادة باطلة ومنها «عبادة الأشخاص المستبدين المتألهين».

ثانيا: لأن الاستبداد النزّاع إلى السلطة المطلقة عدو مبين لـ«الشورى» التي أرسى الإسلام أصولها، كخلق اجتماعي عام «وأمرهم شورى بينهم» وكأساس مكين من أسس الحكم «وشاورهم في الأمر».

ثالثا: لأن الاستبداد النزاع إلى السلطة المطلقة يلغي كرامة الناس، ويصادر عزتهم، ويتلذذ بإذلالهم واستضعافهم. وهذا كله يتناقض مع منهج الله وإرادته في خلق بني آدم كلهم على (الكرامة الأصلية): «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».

رابعا: لأن الاستبداد النزاع إلى السلطة المطلقة يضحي بمصالح الأمة ويلعب بمصائرها في سبيل أهوائه: «ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار».

والواقع المعاصر يصدق منهج القرآن. فالاستبداد السياسي جر على الأمة ما هد عافيتها، وأذل كرامتها، وعطل مصالحها.. ولقد تزمل هذا الاستبداد في صور عديدة: صورة الانقلابات العسكرية الكاتمة للأنفاس.. وصورة ديكتاتورية الحزب.. وصورة عبادة الفرد أو الزعيم.. وصورة الديمقراطيات المكيّفة بأهواء المستبدين، المسارعة في أهوائهم، الراكضة إلى النتائج التي يحبون ويتمنون.

والإسلام ليس مسؤولا - قطعا - عن حالات ضلت أيما ضلال عن منهجه وهداه.. ومن خصائص هذا المنهج: التوكيد على «بشرية الحاكم»، والامتناع العقدي والسياسي عن تأليهه، وتقييد سلطاته وصلاحياته بالشورى ولوازم الشريعة وإلزاماتها كافة دون طغيان: «فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا».