الاضطرابات داخل ليبيا

TT

الانتشار الملحوظ للثورات العربية خلال 2011 في مختلف أنحاء الشمال الأفريقي يدفع الكثير من الصحافيين إلى القول بأن الانتفاضة الليبية الحالية تقف وراءها عوامل مماثلة لتلك التي دفعت ثورات داخل دولتي الجوار تونس ومصر. وفي الواقع فإن أوجه الاختلاف أكثر من أوجه التشابه. صحيح أن معظم الليبيين دون الثلاثين، وأن نسبة البطالة بين الشباب كبيرة جدا، وصحيح أن الكثير من الليبيين يشعرون بالإحباط بسبب كليبتوقراطية على مدار 42 عاما تبددت خلالها الموارد الليبية الضخمة ومُنعت خلالها حرية التعبير. وصحيح أن القدرة على استخدام الإنترنت ومواقع الشبكات الاجتماعية ساعدت شبابا تحرروا من الأوهام على تنظيم أنفسهم بصورة لا يمكن للنظام مراقبتها أو وأدها.

لكن هنا تنتهي أوجه الشبه المهمة بين ليبيا وجيرانها. تونس ومصر دولتان قوميتان متماسكتان لأكثر من قرن من الزمان. المشاعر الوطنية قوية، ولا تنطبق الهوية القبلية إلا على أقلية في مناطق غير حضرية. وليبيا عكس ذلك تماما، حيث تتكون من ثلاثة أقاليم تعود إلى أيام الإمبراطورية العثمانية (طرابلس وبرقة وفزان) قام المستعمرون الإيطاليون بتجميعها معا تدريجيا منذ 1911. وفي عام 1951 تحولت إلى مملكة فيدرالية مستقلة لضمان مصالح استراتيجية بريطانية وأميركية إبان الحرب البادرة. ولأن القذافي خلال فترة حكمه على مدار 42 عاما أدان في خطاباته أي نزعة إقليمية، فإنه تمكن بحكمة من جذب الطبقة العليا من أنصاره من مسقط رأسه، سرت، ومن قبائل موالية له حول سبها، حيث ذهب إلى المدرسة العليا. وعليه، ثمة اعتقاد بأن الداعمين المهمين لنظامه لا يحتمل أن يتركوه حاليا، مثلما حافظوا على ولائهم عندما ارتدت انتفاضات ببرقة العباءة الإسلامية عامي 1996 و2006.

وعلى هذه الهيكلة المتعددة الأطياف التي بنتها ليبيا المعاصرة، استفادت دولة نفطية تحكمها آيديولوجية بدرجة كبيرة من عقد شهد تنمية اقتصادية مستمرة وقفت وراءها علاقات أفضل مع الغرب. لكن بسبب الآيديولوجية العتيقة التي يؤمن بها النظام وبيروقراطية مرعبة غير فعالة ومعارضة من جانب هؤلاء الراغبين في المحافظة على النظام الحالي، لم يتم اتخاذ إصلاحات اقتصادية حقيقية. الآن يبدو الوقت متأخرا للغاية، ويبدو أن محاولات إعادة تأهيل ليبيا بعد وضعها المنبوذ دوليا في السابق بنبذ الإرهاب والتخلي عن سعي للحصول على أسلحة دمار شامل والسعي إلى خصخصة اقتصادها لم تؤت ثمارها. وفي الوقت الحالي نبذ العقيد معمر القذافي دبلوماسيوه في الخارج والدول الغربية نفسها التي غازلته من أجل ضمان علاقات نفطية تدر لها مكاسب. وعندما تقرأ هذا المقال يحتمل بدرجة كبيرة أن يكون قد أطيح به، أو ذهب للعيش في المنفى، أو أن يواجه قرارا من الأمم المتحدة بقوة (أو من دون قوة).

في البداية كانت تقف وراء الصدامات العنيفة بين القوات الأمنية والمحتجين التي بدأت في بنغازي في السابع عشر من فبراير (شباط) العوامل نفسها التي تسببت في اضطرابات داخل برقة (شرق ليبيا) على مدار العقدين الماضيين - وهي عوامل إقليمية وقبلية وإسلامية وجور حكم القذافي. ويسود رأي يعتبر ليبيا الدولة التالية التي ستغمرها صحوة عربية عامة ضد الديكتاتورية، مما يعزز من قدرة الحركة على التجنيد داخل ليبيا وإثارة اهتمام قوي في الغرب. وبعد ذلك حدث شيء حسب كل المحللين المختصين بالشأن الليبي كان مستحيلا. وفي العشرين من فبراير، بدأت تنتشر الاحتجاجات، التي كانت من قبل محصورة داخل مناطق عاش فيها تاريخيا مناوئون للقذافي داخل الشرق، لتصل إلى العاصمة طرابلس الهادئة تقليديا في الغرب.

ومن الناحية التاريخية، كان إطلاق النيران على الحشود المحتجة يؤدي إلى تفرقهم. لكن هذه المرة جعلت النجاحات الثورية داخل مصر وتونس الليبيين العاديين يعتقدون أن التغيير معهم. وغاب عن النظام معنى هذه اللحظة التاريخية، واستخدم الوسائل القديمة نفسها.

وكان الموقف الحاسم الذي حول ديناميكية الحدث هو الخطاب الذي ألقاه سيف الإسلام القذافي، وأذيع في وقت متأخر من يوم الحادي والعشرين من فبراير على التلفزيون الوطني الليبي. كان في مقدور سيف الإسلام أن يتحدث عن إصلاحات جديدة، ويحمل محافظين رجعيين مثل، رئيس الوزراء البغدادي المحمودي، المسؤولية عن الوضع داخل ليبيا حاليا، ويتعهد بأنه سيستغل ثقله لدى والده من أجل منع استخدام العنف ضد المحتجين. لكن بدلا من ذلك، لعب بالكارت نفسه الذي استخدمه مبارك - إذا لم تتمسكوا بي ستجدون إسلاميين وانفصالا وتدخلا غربيا وفوضى كاملة. وعلى الرغم من أن هناك نقاطا صالحة محتملة، كانت نبرة سيف الإسلام فيها نوع من المواجهة أكثر من التصالح، وكان خطابه محاولة وقحة لتبرير مساعي عائلة القذافي للبقاء في السلطة بأي سبيل. وبعد أقل من 10 دقائق من انتهائه من الخطاب، ظهر رد فعل عكسي، ووحد ذلك جموعا تشعر بخيبة أمل في مختلف أنحاء ليبيا، ودفع بهم إلى شوارع طرابلس، مما أدى إلى زيادة عدد القتلى، ونجم عن ذلك رد فعل عكسي إعلامي كبير ضد عائلة القذافي على قناة «الجزيرة».

والاعتراف بهذا التحول الملحوظ في التفاعلات الداخلية الليبية لا يمكن أن يرشدنا إلى ما سيحدث لاحقا. هل سيكون في مقدور الخدمات الأمنية النخبوية التي يعمل فيها حلفاء قبليون للقذافي ومعهم تسليح سوفياتي قديم المحافظة على السلطة في غرب البلاد؟ أم هل سيكون في مقدور الحركة الوطنية الجديدة، وتساعدها ضغوط خارجية وانشقاقات لموالين للقذافي، تسهيل الانفجار الأخير للنظام، وتترك فراغا كبيرا في السلطة؟ وبغض النظر عن الاتجاه الذي ستسير إليه الأمور، فإن الأحداث خلال الأيام الأخيرة تؤكد أن المجتمع الليبي سيكون أكثر فرقة. ولا يوجد في ليبيا جيش حرفي غير قبلي كما هو الحال داخل مصر أو تونس يستطيع أن يكون قوة وساطة خلال فترة انتقالية.

ومن المستحيل تقدير كيف سيرد معمر القذافي أو حلفاؤه القبليون والثوريون على هذه الأحداث، التي فاجأتهم من دون الاستعداد لها. على مدار العقود الأربعة الماضية، نجا القذافي من الكثير من محاولات الاغتيال ومؤامرات داخلية للانقلاب وانتفاضات في برقة والتفجير الأميركي لمقره في 1986. لكن الأحداث خلال الأيام القليلة الماضية أعادت تشكيل نسيج المجتمع الليبي، ولا يمكن لأحد المتابعين أن يعرف ما ستؤول إليه الأمور.

* مارتن فان كريفيلد: مؤرخ عسكري ومؤلف كتابي «صعود وهبوط الدولة» و«ثقافة الحرب» والكثير من الكتب الأخرى.. وجاسون باك: يقوم بأبحاث حول ليبيا بكلية سانت أنتوني التابعة لجامعة أكسفورد ويعمل في واشنطن العاصمة على العلاقات الأميركية الليبية

* خدمة «غلوبال فيو بوينت»