دستور التحرير لا دساتير العبودية

TT

دساتير مصر السابقة، بما فيها دستور 1923، الذي يتباهى به المصريون، كلها دساتير متخلفة لا تليق إلا بدول العالم الثالث. ولو أردت أن ألعب سياسة وأدغدغ المشاعر الشوفينية المصرية، لقلت بأن دستور 1923 هو من أعظم الدساتير في العالم وأن مشروع دستور 1954 لا يقل عنه تميزا في محاولته تحييد الضباط من السيطرة على مقاليد الحكم في المحروسة. لكن الوقت ليس وقت كسب جماهير أو إحراز نقاط سياسية على حساب مستقبل بلد حانت له فرصة لن تحين مرة أخرى إلا بعد ألفية ثانية، فشباك الفرصة السياسية في بلد قديم كمصر يفتح كل ألف عام تقريبا. لذا يجب ألا نداهن بعضنا البعض أو نكذب على بعضنا، فليس صحيحا أن السنهوري هو أعظم من كتب الدساتير، وأن العقول القانونية المصرية لا يوجد أفضل منها. بدايةً العالم يتطور ومعه تتطور القيم الإنسانية ونظم الحكم، وبلا شك فإن شابا تعلم ودرس في كلية هارفارد للقانون أو في جامعة ييل أو أي جامعة محترمة يستطيع كتابة دستور أفضل من دستور السنهوري الذي كُتب قبل أكثر من ثمانين عاما مضت. عبادة الأشخاص كانت مقبولة قبل 25 يناير (كانون الثاني) 2011، لكننا اليوم جميعا متساوون أو من المفترض أن نكون كذلك. مصر تحتاج إلى دستور عصري جديد يمثل قيم العصر ويستشرف قيم المستقبل، دستور يصلح لقرن من الزمان، والقرن الآن بألف مما تعدون نظرا لسرعة حركة الزمان، والتي أدت إلى وهم اقتراب المكان وجعلتنا نتحدث عن العالم كقرية صغيرة.

بصراحة ومن دون مواربة قرأت الأستاذ عباس محمود العقاد في الثانوية العامة، شعرا وسيرا تاريخية، وكذلك قرأت الدكتور طه حسين روايات ودراسات، وقرأتهما بعد أن تعلمت في بلاد الغرب وبعد الحصول على الدكتوراه والتدريس في جامعات الغرب الكبيرة، كنت منبهرا بما كتب الرجلان في الثانوية العامة، أما بعد ما يمكن تسميته بالنضج العقلي ومقارنة ما كتباه مع نظرائهما في الغرب فقدت حالة الانبهار، ومن هنا لا أجد غضاضة في نقد تلك الهالة التي نضفيها على عظمائنا من الكتاب ومن كتبة الدساتير، هؤلاء أناس عاديون يحتاجون إلى المساعدة ويحتاجون إلى نقد جاد، فالدروشة السياسة لا تصلح لعالم ما بعد 25 يناير.

أعلم أن في ذلك خسارة سياسية في مواجهة الرأي العام، ورفع المرآة أمام الجميع حتى نرى صورتنا على ما هي عليه وليس كما نتمناها. دساتيرنا كلها سيئة ولا تصلح إلا لعصور الاستعباد، و«الدساتير المحترمة مالية الدنيا»، فلنأخذ لأنفسنا دستورا محترما ونضيف إليه صبغتنا المحلية. ألم نمصر الأفلام والروايات والمسرحيات وننسبها إلى أنفسنا، ألم ننوع على موسيقى العالم ونقول عن مؤلفينا إنهم عباقرة ولواءات في الموسيقى، فلماذا لا نفعل هذا مع الدستور؟ وعدتكم في مقال سابق أن أكشف عن الكتب المسروقة والتي حصل الناس عندنا منها على جوائز دولة وعلى شهادات الدكتوراه، وأنا بصدد الانتهاء من هذا الكتاب الذي سيكون أمامكم قريبا. أقول هذا إن غلبنا التكاسل في كتابة دستور محترم. أما رأيي الخاص فقد أعلنته قبل سقوط مبارك واقترحت على الشباب أن يأتوا بورقة طويلة ويكتبوا دستورهم في ميدان التحرير، ثم يعدل إلى صيغة قانونية، فالدساتير تعكس روح الشعوب وروح الزمان وروح الثورات، ولا تعكس روح السنهوري وحده قبل سنوات طويلة.

علينا أن نتوقف عن عبادة الأفراد، سواء أكانوا كتبة دساتير أم كتبة محكمة. مصر أنتجت في 25 يناير أبطالا حقيقيين يجب الافتخار بهم، خصوصا الشهداء والمفقودين حتى الآن والجرحى ممن فقدوا عيونهم ولم يفقدوا بصيرتهم. نريد دستورا جديدا يليق بالتضحيات، ومع كل الاحترام للمستشار طارق البشري وخبرته القانونية، فإنه أصبحت لدينا حساسية خاصة تجاه أسماء بعينها تسيدت المشهد منذ ميلادنا من أمثال نجوم منظمة الشباب والطليعة الذين حكموا مصر منذ ستين عاما وما زال بعضهم يحاول الحكم..

لهؤلاء أقول إن منظمة الشباب القديمة انتهت لأن لدينا شبابا جديدا هم أحفادكم لا أبناؤكم. نريد دستورا جديدا لمصر ولا تزعجونا بترقيع خرق قديمة أثبتت أنها لا ترد بردا ولا حرا.