عصر السحب العربية

TT

تعمدت أن أختار عنوانا ربما يشد القراء للقراءة، لأننا جميعا نحتاج إلى وقفة للخروج من السحاب الذي يحيط بنا بكثافة، ولا نعرف إن كان سيمطر خيرا، أم أنه سوف يستعصي دون مطر ينعش الأرض.

أتكلم عن هذه الزفة العربية، من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن، وربما إلى غيرها من الأمصار العربية التي تصاحبها تغاريد الكتاب.. هل هي نوبة صحيان حضارية باتجاه الدولة المدنية الحديثة، كما يرغب المستبشرون ويحلمون، أم هي زفرة الموت إلى وقت يعرف الله متى ينتهي إلى دولة تسلطية من جديد، يعرف بعضنا بعدها قيمة الحكمة الشعبية «أمسك بمجنونك حتى لا يأتيك أجن منه»؟! لا يستعجل القارئ ليحكم أنني خارج السرب، بل من داخله أتحدث، لكني أريد أن أتعرف على هدف السرب وإلى أين هو ذاهب.

وقبل أن أبحر في التوقعات، أسترجع موقف كثيرين منا تجاه سقوط الشاه، ملك الملوك، وأنا واحد من غزية أيضا، ولا أبرئ نفسي، وقتها كانت البشرى عامة والآمال عريضة. وقتها استبشرنا خيرا عميما، قلنا لقد بلغ السيل الزبى في ضيم الشعب الإيراني، فهذا ديكتاتور مخيال فخور بما فوق رأسه من تيجان، وليس ما في داخل رأسه من خطط يقدمها لشعبه لدخول العصر الحديث.

أخذنا برأي مجموعة الليبراليين الإيرانيين الذين كنا نلتقيهم. بشرونا وقتها بشيء آخر غير الذي تم. كان أحدهم فخورا يقول لنا «نحن نستخدم فتاوى السيد الخميني من أجل حشد الناس في الشارع، أما الحكم في المستقبل فهو للمدنيين». وتُوظف صديقة وزير الخارجية الإيراني في أول شهور الثورة، صادق قطب زادة، هذه المقولة في كتاب لها ذي دلالة، صدر بعد إعدام قطب زادة. عنوان الكتاب، إن ترجم إلى العربية، «تحطيم المرايا»، ونقلت تلك الصحافية الكندية النابهة، صديقة صادق قطب، عنه أنه كان يتأخر عن اللقاء بالفرنسيين الرسميين، لما كان السيد الخميني يعيش قرب باريس، متعمدا، حتى يقول لهم إن الخاتون (زوجة السيد الخميني) قد طلبت منه عطرا من «شانيل»، فتأخر عن الاجتماع للبحث عن طلبها!! رمزا لتوصيل رسالة أن السيدة جزء من العصر. انتهينا، بعد تلك الزفة الكبيرة والحماسية، برئيس في إيران يقول إنه يخاطب المهدي المنتظر شخصيا!!.. ويحرم على جموع الشعب حتى إبداء آرائهم في ما حولهم. انتهينا بديكتاتورية رجال الدين، الذين حولوا التشريع لديهم إلى فتاوى، وسار نهر الدم الذي لا يبدو أنه سوف يتوقف في القريب، وتضخمت الطموحات الخارجية، أكبر بكثير من طموحات الشاه في بناء إمبراطورية مفترضة.

فهل تنتهي زفة العرب، أو بعضها، لتصبح سحابا خُلبا؛ كثير من زئير الرعد ولا مطر؟!

ما حدث يوم الجمعة قبل الماضي في ميدان التحرير في القاهرة، من اعتلاء الشيخ يوسف القرضاوي منصة الحديث دون غيره في جموع المحتشدين، قد يؤشر إلى احتمال خطف كل ما تحقق أو معظمه.

ولا بد لي أن أقول إن الشيخ القرضاوي، كما أعلم، ليس من الإخوان المسلمين المنظمين، كان ولم يعد، حسب المصادر، كما أنني شخصيا أحترم اجتهاداته الدينية، أما حظه في المواقف السياسية فهو في الغالب غير موفق، إن لم تكن بعض اجتهاداته عمياء.

مثلا قال كلاما إيجابيا في صدام حسين، وهو الذي قتل وشرد عشرات الآلاف من الشعب العراقي، ولم يكن الشيخ محقا في ذلك، كما أفتى بقتل معمر القذافي، وهو فعل غير سياسي. كان يمكن أن يناصر الشعب الليبي دون الخوض في القتل. خلط الديني بالسياسي لم يوصلنا إلا إلى حرمان أكبر وأكثر من الحريات حتى البسيط منها. أعرف أن كثيرين يراهنون اليوم على إيجاد مجتمع مدني حديث وديمقراطي كما هو متوافر في الكثير من البلدان بعد كل هذه الانتفاضات. كما أتفق مع كثيرين أن بعض القائم لا يحقق الكثير من الحريات أيضا. إلا أنني متخوف مما هو قادم، بناء على معرفة معقولة أن ثقافتنا العربية حتى الآن لم تستوعب فكرة الديمقراطية، أي المساواة القانونية بين المواطنين. قيل كثيرا في السابق إن العرب تبنوا القومية دون قوميين، وتبنوا الاشتراكية دون اشتراكيين، وأيضا قد تكون هناك ديمقراطية دون ديمقراطيين. الديمقراطية ليست صناديق انتخاب، وليست أحزابا، وليست حتى حريات عامة.

هي تبادل سلمي للسلطة، وهي قبل ذلك وبعده ثقافة تؤمن حقا لا لفظا بالمساواة وغلبة القانون. الكثير منا يريد الديمقراطية له ويحرمها على غيره، هو الحق وغيره هو الباطل. في مثل هذه الأجواء يتوقف السحاب عن الأمطار، وترفض الأرض أن تطرح غلة!

لا أريد من أحد أن يفسر ما أقول بأن ما هو قائم شيء مقبول، وأن ما يحدث في ليبيا شيء ليس مقززا وكريها وغير إنساني، لكني أرغب أن يتحدث الجميع ليس عما يكرهون، بل عما يحبون أن يروه في بلادهم. تحطيم القائم شيء سهل نسبيا، لكن بناء ما هو مرغوب هو الأصعب. مثلا هل تحطم ثورة 25 يناير (كانون الثاني) ما بنته سياسيا ثورة 23 يوليو (تموز) في مصر، أم تدخل الاثنتان في نفق يحوطه ظلام دامس؟!

تقول الأمثال «بعد السكرة تأتي الفكرة»، وما دام الجميع منتشيا الآن بما يحدث، فأي فكرة ناضجة تأتي في هذا الجو الملبد بالسحب، وهي سحب كثيفة لا يراها إلا القلة؟!