القذافي يقرأ مونتسكيو!

TT

ميشيل أليو ماري هي وزيرة خارجية فرنسا. إنها امرأة وليست رجلا على عكس ما توحي به المظاهر أحيانا. وبالتالي فلها زوج يدعى باتريك أولييه وزير الشؤون البرلمانية في حكومة الرئيس ساركوزي. وقد تفتحت عبقريته لا فض فوه عام 2007 عن العبارات التالية: يا أخي، القذافي تغير كثيرا! إنه لم يعد ذلك الشخص الذي تعرفونه قبل عشرين سنة. لقد عقل فعلا ولم يعد إرهابيا. هل تعلمون بأنه يقرأ مونتسكيو؟

بصراحة ما كنا نعرف. نحن مجرد جهلة ليس إلا. لو قال لي أحدهم بأن القذافي يقرأ هتلر أو موسوليني أو جنكيز خان لما وجدت في الأمر أي أعجوبة. أما أن يضيع وقته في قراءة أحد كبار فلاسفة التنوير الأوروبي فهذا شيء يتجاوز عقلي وإمكانياتي. نقول ذلك خاصة أن مونتسكيو يمثل العقل الراجح والنزعة الإنسانية داخل حركة التنوير، بالإضافة إلى جان جاك روسو بالطبع. إنه مبلور نظرية الفصل بين السلطات واحترام اللعبة الديمقراطية والتناوب على السلطة. إنه المنظر الأكبر للحكم الرشيد، حكم القانون والمؤسسات في العصور الحديثة. وبالتالي فهو أبعد ما يكون عن شخص نزق، مجنون، لا يعرف شيئا اسمه منطق ولا قانون ولا دستور.

أخطر شيء فعله القذافي هو أنه دمر الروح الليبية من الداخل. لقد شوهها، أفسدها، أجبرها على أن تعتقد ما لا تعتقده، أن تقول بأن الأبيض أصفر والأحمر أخضر، والباطل حق والحق باطل. هذا التدجين العقائدي الإرهابي هو الذي أطفأ ذكاء الشعوب والحضارات. انظر ما فعله ماو تسي تونغ وستالين وكيم ايل سونغ الذين فرضوا نفسهم أيضا كفلاسفة، وليس فقط كرجال دولة. فكانت النتيجة كارثة. نقول ذلك على الرغم من أنهم أكثر عقلانية بكثير من القذافي. لو أن القذافي اكتفى بكونه عقيدا نجح في القفز على السلطة في ليلة ما فيها ضوء لهان الأمر. لو أنه اكتفى بقمع الليبيين سياسيا لهان الأمر أيضا. أما أن يفرض نفسه عليهم - وعلينا - كمثقف أو حتى كفيلسوف، فهنا الطامة الكبرى. متى سيخرج الشعب الليبي من هذا التشويه الفكري والنفسي والعقلي الذي مارسه عليه طيلة أربعين سنة؟ لك الله أيها الشعب الليبي البطل والعظيم! لقد قتلك روحيا والآن يريد أن يجهز عليك جسديا. لم يشبع من التجريب والعسف فيك على طول الخط.

هذا رجل سادي بالمعنى الحرفي للكلمة. هذا رجل لم يعرف في حياته شيئا اسمه تأنيب الضمير. هذا نيرون. ومع ذلك فإني أشفق عليه لأنه تشوه شكليا بالقياس إلى ما كان عليه إبان شبابه الزاهر.. أقسم بالله أكاد أحزن عليه لأنه لا يمتلك كل طاقاته العقلية. انظروا إليه وهو يخطب كالثور المجروح الذي لا يستطيع أن يصدق ما يحصل له، فأصبح يضرب في كل الاتجاهات ويخبط خبط عشواء.. إنه في عالم آخر غير هذا العالم. إنه مستلب عقليا تماما. من هنا وجه الخطر والخطورة. لقد أصبح خطرا على نفسه وعلى الآخرين.. مصيبة حقيقية.

لك الله أيها البلد الكبير في هذه الساعات الحرجة والحاسمة التي تصنع فيها الشعوب. إني لا أستطيع أن أرى صور ضحاياك أو شهدائك الأبرار على شاشات التلفزيون أحيانا، فأغمض عيني أو أغير القناة فورا. إني معك قلبا وقالبا كملايين العرب الآخرين. عندما يقتلك الديكتاتور من الداخل، عندما يجبرك على أن تؤمن بأشياء لا تريدها ولا ترغبها، عندما يتدخل حتى في تركيبتك العقلية، عندما يفرض على البلاد كلها نفس الخطاب العقيم الأجوف، فإنه يدمرك روحيا ونفسيا، ويشوهك عقليا.

طيلة أربعين سنة وليبيا ترزح تحت حكم قراقوش التعسفي الاعتباطي الذي لا يعترف بمنطق ولا قانون. أحيانا يستغرب المرء كيف بقي الشعب الليبي على قيد الحياة بعد كل هذه السنوات؟ بل ويستغرب كيف أمكن لشخص كالقذافي أن يحكمه طيلة أربعين سنة متواصلة؟ هل هو عبقري وكل الليبيين والليبيات أغبياء؟ مستحيل. هذه غلطة من غلطات التاريخ، فلتة من فلتات الزمان التي لا تتكرر إلا كل عشرة قرون. أعتقد أن هيغل نفسه عاجز عن الإجابة عن هذا السؤال. أعتقد أنه عاجز عن تفسير ظاهرة القذافي، هو الذي اكتشف جل قوانين التاريخ الكونية. ربما صفعنا بعبارته الشهيرة: كل ما هو واقعي عقلاني! بمعنى أنه ينبغي أن تمروا بمرحلة الجنون والتشويه العقلي لكي تعرفوا معنى العقل وقيمة العقل. ينبغي أن تمروا بالخطأ لكي تعرفوا معنى الصح. الإنسان «لا يتعلم إلا من كيسه» كما يقول المثل العامي الذي سبق هيغل إلى اكتشاف هذا القانون التاريخي. ينبغي أن تدفعوا الثمن باهظا لكي تستنيروا وتتحضروا وتصبحوا بشرا.

أعتقد أن ليبيا بعد القذافي سيكون فيها جوع هائل للحرية أكثر من جوعها إلى الخبز. أقول ذلك وهي البلد الغني الأبي الكريم الذي لا يهان. سوف يكون فيها جوع هائل للعقل والفلسفة والمنطق والحقيقة. أعتقد أنها سترفع قيمة الفكر الحر إلى أعلى مكان. أعتقد أنها ستؤسس أفضل الجامعات. أعتقد أنها ستبدأ بإصلاح الجامعات والمدارس والبرامج وكل شيء. هذا بالإضافة إلى حرق الكتاب الأخضر! لأول مرة أنا من مؤيدي حرق الكتب. وكل ذلك من أجل إنقاذ الروح الليبية، من أجل تنظيفها من أربعين سنة غباء وجهل ودجل وتدجيل. وربما أصبحت بؤرة النور والتنوير بعد كل هذه السنوات العجاف، صحراء الفكر.. عاشت ليبيا! أو قل فلتنبعث ليبيا من جديد!