ميدان التحرير.. في رام الله وغزة

TT

لم تختلف مواقف الفلسطينيين مما حدث في مصر، عن مواقف أي مجتمع عربي آخر.. إلا أن مظاهر الاحتفاء بانتصار ثورة شعبية كانت أقل، وذلك بسبب طغيان الهموم الفلسطينية داخل النفوس مما يقلل مساحة الابتهاج بأي حدث خارجي، مهما بلغ من قوة وأهمية. غير أن التقويم الشعبي لنجاح الثورة المصرية، يسجل ارتفاعا كبيرا في مؤشر التفاؤل بمصر الجديدة، وأهم مبررات هذا التفاؤل هو أن مصر التي فرض عليها النظام طويل الأمد حالة من تراجع التأثير في الحياة العربية والإقليمية، ستكون بفعل إصلاح نظامها أو تجديده أكثر قدرة على التأثير وربما أكثر فاعلية في أمر تسريع بلوغ الفلسطينيين حقوقهم الوطنية. أما فلسطينيو غزة، فيضيفون عاملا أكثر حرارة على تفاؤلهم بما حدث، فالمواطن العادي يأمل في أن يكسر ميدان التحرير الحصار عن القطاع، وأن يفتح المعبر الأساسي في رفح.. بعد إغلاق دام سنوات.. كانت إفرازاته الأساسية أن يعيش القطاع في جزء مهم من حياته على الأنفاق والتهريب، وما تقدمه إسرائيل من تسهيلات متواضعة عبر المعابر التي تسيطر عليها.

أما حكومة حماس التي قادت مظاهرات ابتهاج، وهاتفت المرشد العام للإخوان في مصر، مهنئة بنجاح الثورة.. فإنها تأمل - ومن خلال توقع دور أكثر تأثيرا «للجماعة» في القرارات السياسية المصرية - أن يحسب حسابها وأن تخف الضغوط المفروضة عليها سواء على صعيد إغلاق المعبر أو على صعيد التعامل السياسي. ووراء الابتهاج، وانتعاش الآمال والرهانات، هنالك حذر شديد في رام الله إزاء سياسات الدولة المصرية التي كانت حتى آخر يوم من أيام مبارك.. الحليف الأقرب للقيادة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، ولعل مبعث هذا الحذر، هو حتمية انكفاء مصر إلى داخلها، حيث الحاجة الملحة لمعالجة آثار الثورة ثم وضع أسس وآليات بناء النظام الجديد، الذي لن يدع للحركة الخارجية - خاصة على صعيد جهود المصالحة الفلسطينية - المجال الكافي للعمل وإحراز النتائج.

إضافة إلى أن القيادة السياسية في رام الله، تعاني وقبل ثورة مصر وإبانها وبعدها من انغلاق الأفق السياسي وعدم كفاية البدائل التي تم الحديث عنها منذ توقف المفاوضات ومن ضمنها اللجوء إلى مجلس الأمن، والاعتماد على اعترافات دول أميركا اللاتينية بالدولة الفلسطينية على حدود 67 إضافة إلى هزال بيان الرباعية الذي انتظرته القيادة الفلسطينية، لعله يحمل بارقة أمل بثغرة ما تظهر في الجدار السياسي الأصم، فإذا بالبيان يحمل تراجعا عما سبقه مما ضاعف الإحباط وزاد الشعور بقلة الحيلة وعقم البدائل.

لقد حاولت القيادة الفلسطينية إظهار ترحيب متحفظ بالتغيير في مصر، رغم صدور إشارات من بعضها تظهر المخاوف المترتبة على رحيل مبارك، قبل أن يرحل كما تحاول اتخاذ بعض الإجراءات مثل الإعلان عن تغيير وزاري، والاستعداد لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية خلال الشهور المقبلة.

إن ردود الفعل الأولية على أخبار التعديل الوزاري وقرار الانتخابات بدت باهتة وباردة وحتى غير ذات شأن لدى القطاعات الشعبية المختلفة فلقد قررت التعديلات الوزارية أكثر من مرة ولم تحدث، وحتى لو حدثت فإن رد الفعل السلبي عليها سيكون حتما أكثر من الإيجابي، نظرا لشدة وحدّة التنافس على المقاعد الوزارية بين أبناء الطبقة السياسية التقليدية، ونظرا إلى أن مجرد تغيير حكومة لن يكون علاجا سحريا للمشكلات المتفاقمة داخليا وسياسيا.

أما قرار إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل سبتمبر (أيلول) هذا العام فلم ينظر إليه شعبيا وسياسيا كقرار جدي، فلقد أعلن بصورة ارتجالية ومتعجلة، مما حمل كثيرين لا يزالون يهتمون بهذه الأمور على استذكار القرارات التي اتخذت سابقا بهذا الشأن وتم التراجع عنها، ناهيك عن الموقف الذي كان الرئيس عباس أعلنه قبل أيام قليلة بأن لا انتخابات دون إتمام الوحدة، والوحدة فيما يبدو خصوصا بعد غياب راعي جهودها الصبور والمواظب السيد عمر سليمان أصبحت بعيدة المنال..

وفي غياب الدور المصري التقليدي الذي أنجز مشروع اتفاق لم يوقع بين الطرفين، فتح وحماس، فقد تولت فتح دور تقديم المبادرات الجديدة لعلها تعوض الغياب المصري بحضور فلسطيني مميز، وقدمت في هذا السبيل ما لم تقدمه من قبل، إذ أعلن الدكتور نبيل شعث، باسم فتح، أن حركة حماس حركة وطنية مستقلة ولا صلة لها بإيران أو أي طرف إقليمي آخر، وهذا إعلان غير مسبوق إضافة إلى إعلان أكثر مرونة بل ويصل حد التسليم الكامل بكل مطالب حماس التي عرضتها في حوارات دمشق لقاء تجاوز الورقة المصرية وتشكيل حكومة ائتلافية تتولى الإعداد للانتخابات التشريعية والرئاسية.

غير أن حماس فيما يبدو ترى أن السلطة في رام الله مؤهلة لاستقبال مزيد من الضغط ولعلها تكون أكثر جاهزية لتقديم تنازلات أكثر بكثير مما قدم حتى الآن.

ولقد أفصحت حماس عن ذلك من خلال رد فعلها على عروض الدكتور شعث، حيث لم توافق على العروض، مكتفية بدعوة فتح إلى حوار جديد لإثبات حسن النوايا.. إضافة إلى هجومها العنيف على خطوة التغيير الوزاري وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية.

إن أحداث مصر، ومنذ الأيام الأولى لرحيل مبارك، أفرزت هذه المعطيات على الساحة الفلسطينية، إلا أنها لم تصل بعد إلى حد إزالة المخاوف تماما من العصف المصري، ذلك أن ما يمكن أن يحرك الشارع الفلسطيني، هو الشعور الجماعي بالعجز السياسي والتشكك من أن الدولة الفلسطينية سترى النور خلال الأشهر الستة المقبلة، بل هنالك يقين باستحالة ذلك، إضافة إلى المعاناة المتفاقمة من الغلاء وسوء الأوضاع الاقتصادية، وهذه أمور لا يوقف تفاعلاتها تعديل وزاري، ولا قرار إجراء انتخابات إشكالية أثارت حتى الآن من ردود الأفعال السلبية أكثر بكثير مما أثاره من الارتياح والرضا.

إن خلاصات يقينية لما سيحدث هنا، كانعكاس لثورة مصر، يحتاج إلى بعض الوقت.. إلا أن غزة ورام الله في كل الأحوال يجمعهما شعور مشترك بالقلق، ولكل طرف ما يقلق عليه.