اسألوا ابن عبد السلام

TT

تطلع الأخ القائد حوله فرأى عالمه على حقيقته هذه المرة؛ رجلا بلا أصدقاء، حتى «الجزيرة» التي كانت تذهب إليه في الخيمة الملونة لكي يؤدي برنامجا خاصا طوال ساعتين، تفقدها فرآها تنقل صور معارضيه. ولم يكن برنامجه هذه المرة حافلا بالنكات أو الاستعلاء أو السخرية من كل شيء على الأرض.. كان وحيدا ينادي على الذين لم يشعر بوجودهم من قبل، لأنهم مجرد جرذان وجراثيم وكلاب.

وهكذا أخرج لافتات في شوارع طرابلس ضد «الجزيرة» كتب عليها ما كان يكتب في المظاهرات ضد أميركا، وهو تعبير سفيه لا يجوز إعادة استخدامه. مرة قرر أن يقاطع القمة العربية من أجل أن تتحدث الصحف بذلك، فذهبت «الجزيرة» إليه، تسمع وتسمعنا، وإذا به يقرأ مقررات القمة سلفا، على أساس أنه حصل على البيان الختامي في سبق صحافي. وفي هذا الوقت كان البيان قد أصبح، كالعادة، عند جميع وكالات الأنباء، فالبيانات الختامية ليست أسرارا صحافية، بل توضع ليقرأها العالم، وتدون للتاريخ.

كان يحيط نفسه بمسرح سيئ الإخراج، أينما حل. بعد أربعين دقيقة من خطابه أمام الأمم المتحدة أغمي على المترجم، لكثرة ما استحال عليه نقل ما يريد القائد إبلاغه إلى العالم. وصدف أن كان رئيس الجمعية العامة (منصب دوري حسب الترتيب الأبجدي) علي التريكي، فكان يلتفت إلى مندوبي 180 دولة ويقول لهم اسألوا «التريكي»، ثم يشير إليه باسم والده دون شهرته العائلية قائلا اسألوا «علي عبد السلام»، وكأن هيئة الأمم مجرد امتداد لخيمة الألوان في سرت.

كان يمشي متعاليا، ويجلس متعاليا، ويخطب متعاليا.. وظل سنوات يستقبل ضيوفه وهو جالس على كرسي مرتفع ويجلسهم على الأرض، خلافا لأبسط قواعد السلوك العادي أو الطبيعي وأقل الآداب. ونحن في لبنان لن ننسى يوم استقبل رئيس الجمهورية، أمين الجميل، بهذه الطريقة.. ويومها أبلغه أن الجماهيرية العظمى صرفت في حرب لبنان مليار دولار، ما بين قتل من يكره وتعويض عن موت من يؤيد.

كل شيء كان مسرحا، ولكن دائما من دون أي ذوق أو إجادة؛ الخيمة كانت مسرحا متنقلا يثير السخرية والتندر، ودخوله إلى القمة العربية كان مسرحا مكررا، وحضوره كان همّا على الجميع. وعلى مدى السنين، بدت القمة معرضا لأزيائه التي تغيرت مع الزمن؛ من ضابط برتبة ملازم، إلى ملك ملوك أفريقيا، مرورا بـ«الطقم» العسكري الأبيض المدجج بجميع أنواع النياشين.

لم تكن نكاته مضحكة أو مسلية.. مرة روى أن شكسبير ليبي الأصل من عائلة أسبر. وهي طرفة سمجة أصلا في بلد المنشأ، لبنان، حيث رددت طوال سنوات. وفاته كالعادة تفصيل بسيط، كعادته في نقل الأشياء، وهو أن لا وجود لعائلة أسبر في ليبيا! ولا للاسم. لكن كما نقل «كومونة» باريس وأشهر الثورة الفرنسية وأساء نقل أفكار جان جاك روسو، حاول أن يكون مضحكا مع الشيخ أسبر.