عندما تحطمت أرنبة أنفي

TT

حكى لي أحدهم هذه الواقعة الحقيقية قائلا:

في عام 1930 كان يقيم في أستراليا رجل مثقف مهذب، استطاع أن يتنبأ بأن حربا عظمى توشك أن تنشب في العالم، ولم يكن يرغب في تحمل أهوالها، فأمضى وقتا طويلا يفكر في أي الطرق ينبغي على الرجل العاقل أن يسلكه إذا أراد الهرب، وانتهى الرجل من دراسته إلى أن أوروبا ستنفجر، وأن النيران الناجمة منها لا بد ستلتهم أفريقيا ومعظم آسيا.. وببصيرة خارقة استنتج الرجل أن أستراليا، نظرا لافتقارها للدفاع - بسبب انشغال رجالها بالحرب في أوروبا، ستصبح معرضة لخطر الغزو من آسيا.

وفكر الرجل في الهجرة إلى أميركا، ولكنه استبعد هذه الفكرة بحجة أنها غير عملية، لما بدا له أن أميركا قد تدخل الحرب أيضا.

وأخيرا - وبعد تفكير منطقي دقيق - قرر أن ملاذه الأمين الذي يحميه من جنون العالم لا بد أن يكون في جزيرة استوائية ما. ودرس الرجل محيط الباسفيك، وحصر مجال اختياره للجزر في جزيرة تمتاز بالعزلة والأمان والحياة الطيبة.

وفي آخر صيف عام 1939 - قبل أن يغزو الألمان بولندا بأسبوع واحد - هرب هذا الحكيم الأسترالي إلى ملاذه الأمين في جنوب الباسفيك.. إلى جزيرة (قواد الكنال)، التي لا يكاد يعرفها أحد!

ولم يمض على مكوثه هناك غير شهر واحد، نشب بينه وبين أحد السكان هناك خلاف تطور إلى عراك تهشم خلاله رأسه ومات.

وصدق المولى العظيم عندما قال: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة).

وهو ذكرني بحادثة أخرى وقعت في البادية في زمان مضى، وقد سمعتها من بعض (الشيبان)، حيث سلب فريق إبل فريق آخر في جنح الظلام، وفي الصباح الباكر تفازع الرجال وانطلقوا في أثر الفريق السالب ليستعيدوا إبلهم، غير أن رجلا واحدا تأخر عنهم وبدلا من أن ينطلق إلى ميدان المعركة اتجه إلى الخيمة التي تسكن فيها معشوقته ليستعرض أمامها أولا، وأخذ يدور حول الخيمة وهو يهتف ويصيح مرددا بيت الشعر هذا:

بشرنا يا دقاق الهيل

بشرنا كان الغارة خيل

وفي دورته الخامسة أو السادسة تعثرت فرسه في طنب الخيمة فهوى من ظهرها على وجهه وسقطت هي بكل ثقلها عليه وحطمت أضلعه، وسحبته النساء إلى الداخل وهو مضرج بدمائه، وفي تلك الليلة نفسها لفظ الفارس الاستعراضي الجبان أنفاسه، في الوقت الذي رجع فيه الرجال الشجعان ظافرين غانمين بعد أن استعادوا إبلهم دون أن يقتل منهم رجل واحد.

وهناك مثل شعبي دارج يقول: اقترب من الموت تأمن.

ويبدو أنني لم أستوعب ذلك المثل جيدا؛ لأنني أذكر في صباي أن مشاغبة حصلت بين بعض أقراني تطورت إلى مضاربة بالأيدي والعصي والحجارة. فنأيت بنفسي عنهم بعيدا طلبا للسلامة، وأخذت أراقب المضاربة من بعيد آمنا مطمئنا، وإذا بحجر طائش لم أتوقعه يأتيني كالقذيفة ويحطم أرنبة أنفي الذي انفجر بالدماء التي غرّقـت ثوبي، رغم أنه لم يكن لي (لا في العير ولا في النفير) وما إن انفضت المضاربة وإذا بي أفدح الجميع مصابا، وفوق ذلك كله أخذت من أهلي التقريع والضرب كذلك، ولم يصدقوني أنني كنت بريئا كحمامة السلام - أو بمعنى أصح - كدجاجة السلام.