الثكنة.. أولا وأخيرا

TT

اختار الأخ القائد منذ الأيام الأولى لوصوله إلى السلطة أن يقطن داخل ثكنة، وهي سابقة تاريخية في سياسات الدول، وخصوصا عندما يكون رأس الدولة مجرد رمز دستوري، بلا أي صلاحيات أو مسؤوليات، ويكون وضعه شبيها بوضع الملكة إليزابيث الثانية. أين المشكلة إذن؟ واضح أن الأخ العقيد مثل إليزابيث الثانية، خصوصا منذ 17 فبراير (شباط)، ولكن الغامض هو أن الليبيين لا يعيشون حياتهم مثل البريطانيين. فالملكة إليزابيث تقرأ عليهم رسالة واحدة في السنة مطلع كل عام، وفي جميع هذه الرسائل لم تدع الشعب إلى السلاح، ولا هددت بلدها بتنظيفه من المعارضين بيتا بيتا وشبرا شبرا. ولا هي سُمعت، في أي عام خلال ستة عقود، تمنن على شعبها بنهر التيمس أو بمنطقة البحيرات.

منذ عام 2005 وسيف الإسلام يعد الليبيين بحياة أفضل من التي عرفوها في ظل ثورة الفاتح العظيم. حياة عادية طبيعية مثل سائر شعوب العالم، ليس فيها اختراعات ولا بدع ولا ملصقات للأخ القائد في كل شارع و«زنقة»، بكل نوع من أنواع الألبسة والنظارات والقبعات. ومساء السبت كان الرجل يعد الليبيين مجددا في مقابلته مع «العربية» بما لم يستطع، أو لم ينو، أن يحقق منه شيئا. وفيما وصف الأخ القائد معارضي الداخل بالجرذان والفئران قال الابن عن محرضي الخارج: «إنهم كانوا يأتون إلى هنا يأكلون ويشربون» و«كانوا يلعقون أحذيتنا». يحار المرء إن كان العنف اللفظي أقسى أم عنف تسليح الشعب، أم العنف الماثل في توسل القبائل والمناداة عليها من «الساحة الخضراء» التي منها أعلن طوال أربعين عاما حل مشكلات الكون، من خلال «النظرية العالمية الثالثة» و«البيت لساكنه» و«شركاء لا أجراء». لا يزال المشهد سورياليا منذ أربعين عاما كما كان، لكنها الآن سوريالية تفيض بالدماء والفزع وسائر أنواع الأخطار، لا يطيق الديكتاتور هذا المشهد وهذه اللحظات. حتى المهرج برلسكوني، الذي قبل يده، وقف يعلن أن ليبيا أفلتت من قبضة صديقه، فيما صديقه المعزول يخطب في الليبيين مكررا انتصاره هو على الاستعمار الإيطالي، ومستعينا بذكرى عمر المختار، باعتبارها أيضا ملكا خاصا له. وهكذا انقسم الليبيون إلى قسمين، قسم هو أحفاد عمر المختار، وقسم من الجرذان والجراثيم.

تقوم انتفاضات في أمكنة كثيرة من العالم العربي، جميعها تميزت بحوار بين السلطة والمحتجين. فقط في هذه الساحة الخضراء، لا يحاور الرجل إلا نفسه ولا يخاطب إلا نفسه، ويخرج إلى الناس معتمرا قبعة مضادة للرصاص. وللسمع.