عملية «ذيل الفأر» في ثلاث دول!

TT

الأحداث الثورية التي جرت في ثلاث دول عربية، ابتداء بما جرى في تونس، يوم 14 يناير (كانون الثاني)، ومرورا بحركة شباب مصر في 25 من الشهر نفسه، وانتهاء بما يجري حاليا في ليبيا، تقول إن هذه الدول الثلاث، وربما عدد آخر من دول المنطقة معها، سوف تكون على موعد مع انتخابات من نوع جديد فيها هذا العام.

وحين يقال انتخابات من نوع جديد، فالقصد أن هذه الانتخابات سوف تكون مختلفة قطعا، عن الانتخابات التي كانت تجرى في كل دولة منها، على مدى عقود ماضية، فالصورة العامة لدى الناس، عن كل انتخابات جرت من قبل، ليست جيدة، ولم تكن يوما تبعث على التفاؤل!

وفي مصر، على سبيل المثال، فإن كثيرين لا يزالون إلى اليوم، يذكرون أن آخر انتخابات جرت في البلد، على قدر معقول من النزاهة واحترام إرادة الناخب، كانت تلك التي جرت عام 1976، أيام الرئيس السادات، وتحت إشراف ممدوح سالم، وزير الداخلية وقتها.. ومن بعدها لا يذكر المصريون أن هناك انتخابات انعقدت، ثم جاءت نتيجتها معبرة عن آمال الناس، وتطلعاتهم، وأحلامهم، ورؤاهم، ورغباتهم، وإنما كانت في كل مرة تعبر عن تطلعات الحزب الحاكم، وحده، وعن رغبات أعضائه، والمنتمين إليه.

والسؤال الذي يلح على الأذهان، في هذه اللحظة، هو: هل يمكن رؤية انتخابات مقبلة، أن تأتي بالديمقراطية كاملة للناس؟! وبمعنى آخر: هل يعني ما جرى في 25 يناير، أن أول انتخابات سوف تأتي من بعد هذا التاريخ، سوف تنقلنا إلى ديمقراطية الولايات المتحدة الأميركية، مباشرة، أو إنجلترا، أو فرنسا، أو غيرها من الدول التي استقرت فيها قيمة العملية الديمقراطية من سنين؟!

هناك رأيان وجيهان في الموضوع، أحدهما يقول إن الديمقراطية في تاريخ الشعوب، ليست مجرد صندوق انتخاب، فقبل الصندوق هناك عملية شاقة طويلة، يجب أن يتدرب خلالها أفراد الشعب، أي شعب، على الممارسة الديمقراطية الصحيحة، وبالتالي، فنحن حسب أصحاب هذا الرأي، لا نزال أبعد ما نكون، عن الديمقراطيات العريقة التي نعرفها، ونتابع أداءها في العالم. وهناك رأي آخر في المقابل يرى العكس، ويراهن على أن مجرد الذهاب إلى صندوق الانتخابات، وفي ظروف جديدة من النوع الذي تعيشه هذه البلاد الثلاثة على الأقل، كفيل بتحقيق الديمقراطية التي نتمناها جميعا، وفي ضربة واحدة!

ولو أني سئلت عن رأيي، فسوف أقول إنني أميل إلى الاتجاه الأول، ليس بالطبع عن عدم ثقة في قدرة الناخب المصري - مثلا - في أن يختار ما يجب أن يختاره من المرشحين المطروحين أمامه عندما يذهب إلى صندوق الاقتراع، وإنما إيمانا بأن الديمقراطية، كعملية مكتملة، ليست قرارا نتخذه، ثم نطبقه على الأرض في اليوم التالي. فلو كانت كذلك، ما كانت هناك مشكلة فيها، لدى أي شعب، وإنما هي نوع من المران الطويل، والتدريب الأطول، للناخب، ثم إنها أيضا، أقصد العملية الديمقراطية، أجواء معينة لا بد أن تتهيأ، وأن تتوافر، بحيث يستطيع الناخب من خلالها، إذا تهيأت له مسبقا أن يختار دون أن يكون خاضعا لضغوط، أو تأثيرات، على أي مستوى!

ولو أن أحدا عاد إلى تصريحات أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، أو ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا، في أعقاب تنحي الرئيس مبارك عن السلطة، فسوف يلاحظ أن الاثنين كان رأيهما، أن المسألة بالنسبة لمصر، ليست مجرد انتخابات تجرى غدا، أو بعد غد، لأننا، كمصريين، لا بد أن نرسخ، أولا، قيما معينة في الطريق إلى الانتخابات، وقبلها.. وربما تأتي قيمة التسامح، وقيمة قبول الآخر، على رأس مثل هذه القيم، التي يستحيل أن تجرى انتخابات على نحو نرجوه، دون أن تكون تلك القيم مستقرة في أعماق كل واحد فينا!

وبطبيعة الحال، فإن تصريحات المستشارة الألمانية، ورئيس الوزراء البريطاني، قد مرت، دون أن ينتبه أحد إلى أهميتها، ودون أن يتوقف أحد، عندها، على الرغم من أنها تقريبا، أهم ما قيل في الموضوع إجمالا، لا لشيء، إلا لأن امرأة مثل ميركل، كانت مناضلة في ألمانيا الشرقية، في الأصل، وقبل أن تصبح مستشارة على رأس ألمانيا الموحدة، غربية وشرقية، وبالتالي فهي تتكلم عما تعرفه، ليس من الكتب، وإنما من الواقع، الذي عاشته، وعايشته طويلا.

وفي مقابلها، فإن رئيس وزراء بريطانيا، حين يقول كلاما بهذا المعنى، فإن علينا أن نسمعه، وأن ننصت إليه، لأنه يتكلم بينما وراءه تراث أعرق ديمقراطيات الدنيا، دون منافس!

لقد كنت في ألمانيا، في سبتمبر (أيلول) قبل الماضي، ضمن وفد من الصحافيين المصريين والعرب، وكان البرنامج الذي جرى إعداده لزيارتنا مسبقا، يقضي بأن نزور مقرات الحزب الحاكم، وأحزاب المعارضة، ومختلف المنظمات والكيانات القائمة، التي تشكل في إجمالها، النظام السياسي الألماني، كما نراه متماسكا أمام أعيننا، منذ أن قام في نهايات الحرب العالمية الثانية عام 1945.

وقد لفت انتباهي، ونحن نتكلم هناك، داخل إحدى المؤسسات التي تعمل على تهيئة الرأي العام، وتغذيته، وإمداده بكل ما يخلق رأيا عاما سويا، لا مريضا.. أقول لفتت انتباهي عبارة قيلت عابرا، وهي «عملية ذيل الفأر» دون أن يشرح قائلها، وقتها، ما الذي بالضبط يقصده من ورائها؟!

وعندما سألته، في أعقاب اللقاء، عما يقصده، فهمت أنها عبارة تعني العمل على أن لا يتكرر مع الألمان، مستقبلا، ما حدث حين جاء «هتلر» إلى الحكم، عام 1933، من خلال عملية انتخابية ديمقراطية مكتملة الأركان.. وبمعنى آخر، فقد اكتشف الألمان، بعد رحيل هتلر، وتدمير بلادهم على يديه، أن الرجل الذي دمر البلد، كان قد جاء إلى مقاعد السلطة، بالانتخاب الحر النزيه، وكان الذي فهموه، أن المشكلة يمكن أن لا تكون في الانتخاب، وإنما يجوز جدا، أن تكون في الناخب ذاته، وأنه إذا لم تكن هناك مؤسسات تعمل طوال الوقت، على توعية الناخب، بشكل عام، وتنوير الرأي العام، دائما، فإنهم، كألمان، يمكن أن يجدوا أنفسهم، على موعد مرة أخرى، مع اختيار رجل من نوعية هتلر، من خلال انتخاب حر مباشر، فتكون ألمانيا على موعد، مرة ثانية، مع من سوف يدمرها من جديد!

عملية «ذيل الفأر» هي التي يعمل عليها الألمان، من بعد تجربتهم مع هتلر، تفترض أن الرأي العام، هو هذا «الفأر» وأن ذيل الفأر، هو تلك العلاقة الخفية، التي يجب أن تكون قائمة وممتدة دون انقطاع، بين قطاعات الرأي العام، من ناحية، ومؤسسات لا عمل لها سوى أن ترشد الرأي العام، وتوجهه، وتضيف إلى خبراته، وتجاربه، وتعمل على إضاءة الطريق، أمام عينيه، وقبل عينيه أمام عقله، حتى إذا ذهب إلى صندوق الاقتراع، اختار رجلا من نوعية «شميت» مثلا، ولم يتورط في اختيار «هتلر» آخر!

نحن، في الدول الثلاث على الأقل، في حاجة إلى ممارسة عملية «ذيل الفأر» بكثافة، حتى لا تؤدي أي انتخابات مقبلة، إلى إعادة إنتاج ما مضى!