«الإخوان» و«النهضة» والصفقات المشفرة!

TT

في زحمة التصريحات المتدفقة والمتداخلة إلى حد التشابك، يصعب المرور اعتباطيا على تصريحين متشابهين جدا، قدمهما «الإخوان المسلمون» في مصر، وجماعة حركة النهضة في تونس.

تصريحان يصبان في المجرى نفسه، ويبثان الرسالة ذاتها تقريبا وهي أنهما لن يترشحا لمنصب رئاسة الدولة، ولا تعنيهما الانتخابات الرئاسية القادمة سواء في مصر أو في تونس.

إننا إزاء موقف متعدد الرسائل والدلالات، ويثير مجموعة من التساؤلات والاستنتاجات الحذرة. فكل من جماعة الإخوان المسلمين وجماعة النهضة تستبطن صورة أنها فزاعة الانتخابات والأكثر تمثيلية شعبية أمام صندوق الاقتراع.

لكن المنطق يفترض أن الطرف السياسي الضامن للأصوات الانتخابية لا يتنازل عن حقه السياسي، إضافة إلى أن مجرد التصريح بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية هو أمر لا محل له من الإعراب السياسي، ويتعارض مع جوهر اللعبة السياسية والطموحات المشروعة لكل الأحزاب بما فيها الإسلامية.

ولا يخفى أن القواسم بين جماعة الإخوان وجماعة النهضة كثيرة، إذ يشكل الرافد الإخواني أحد أهم الروافد الفكرية والدينية لحركة النهضة، التي قامت على منهج مقولات حسن البنا وسيد قطب، واستندت صراحة إلى أدبيات «الإخوان» بالخصوص في مسائل طبيعة الدولة والعلاقة مع الآخر وقضية المرأة.. وهو ما ييسر فهم التشابه أو حتى التماهي والتطابق في بعض المواقف الكبرى والمفصلية.

وإلى جانب ما يعنيه استبطان «الإخوان» في مصر وجماعة النهضة التونسية لصورة الفزاعة، فإن قراءة شفرات الرسالة المراد بثها، تنتهي بنا إلى أن اتجاه هذه الرسالة يتجاوز الداخل ورموزه، ويصوب نحو متقبل مسكوت عنه، يتمثل في القوى العظمى في العالم، أي الولايات المتحدة في المقام الأول وبدرجة أقل الاتحاد الأوروبي، وهي قوى - كما هو معروف - مجبولة على عدم الثقة في الأحزاب الإسلامية، وبالتالي واستنادا إلى الحنكة السياسية لـ«الإخوان» و«النهضة»، وقناعتهما بدور هذه القوى في بلديهما وغيرهما، فهما بصدد بعث رسالة تطمين سياسي مسكوت عنها وتأمين فرصة الدخول الفعلي في اللعبة السياسية، مع تأجيل الطموح في سدة الحكم إلى أجل غير مسمى.

والمتمعن في الخطاب، الذي يتم تسويقه حاليا، يلحظ اللجوء إلى مسوغ الأنموذج التركي، كمثال للحزب السياسي الإسلامي الناجح، وهو في الحقيقة توظيف يستدعي بعض الحذر. فحالة حزب العدالة والتنمية في تركيا تختلف عن وضعيتي «الإخوان» و«النهضة». ذلك أن تركيا بلد في حلف شمال الأطلسي، ويسعى إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وفقا لشروط الأوروبيين. كما أن تركيا تتمتع بإرث علماني عريق ومتجذر، من دون أن ننسى أن الإسلاميين في تركيا من أهم خصائصهم التمدن، ولا يعرف الأنموذج الإسلامي في تركيا خطتي المرشد العام أو الشيخ.

ولعل الأهم من هذه الاعتبارات والخصائص هو إثبات حزب العدالة والتنمية للفعالية على مستوى الهياكل الاجتماعية، حيث تم خوض تجربة العمل البلدي مثلا، وقبل أن يصبح أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية فإنه قد حقق أول نجاحاته لدى رئاسته بلدية اسطنبول. وهي كلها نقاط تشير إلى مواطن الاختلاف التي لا يبدو أن «الإخوان» و«النهضة» تركزان عليها، مما يعني أن عملية توظيف المثال التركي لا تقوم على تفكيك يأتي على مواطن الالتقاء وأسباب التباعد وعوامله.

من جهة أخرى، لعل من الأهمية أن نشير إلى أن ظاهرة رفض التورط في الطموح الرئاسي العلني والمباشر بالنسبة إلى الأحزاب الإسلامية في البلدان العربية هي ظاهرة قديمة نسبيا ومتكررة، من ذلك أنه سنة 1989 عندما قام عمر البشير بانقلاب في السودان ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة، فإن الشيخ حسن الترابي اختار التركيز على رئاسة البرلمان وليس رئاسة الدولة. كما أن تجربة حماس دامغة في هذا السياق، حيث تأكد للأحزاب الإسلامية أن صندوق الاقتراع ليس وحده الحاسم في العلاقة بالحكم، وهو ما حصل عمليا من خلال التكاتف الدولي قصد إفشال حماس وتضييق الخناق عليها فإذا بالنجاح في الانتخابات يتحول إلى وبال ضدهم.

وعاشت جبهة الإنقاذ الجزائرية سيناريو مشابها، حيث شكل فوزها بالأغلبية البرلمانية سببا لتدخل الجيش بحجة حماية النظام الجمهوري والدخول في نفق مظلم سُمي بالعشرية السوداء معنى والحمراء بدماء الجزائريين.

وخلاصة هذه التجارب أن الإسلاميين نقيض الأنظمة، وهاجس كرسي الرئاسة لم يجلب لهم ولشعوبهم سوى المرارة والإقصاء الاستباقي.

ففي ضوء هذه التجارب وثقلها، نضع تصريح «الإخوان المسلمين» وجماعة النهضة القائل بعدم الترشح لمنصب الرئاسة كإجراء وقائي ضد ذاكرة تتوجس من مشاركتهما.

طبعا قد تبدو حركة النهضة التونسية هي الأقرب إلى الاختبار، والمقارنة بينها وبين المثال التركي باعتبار أن تونس أكثر تعلقا بالحداثة وأن الحركة نظريا قامت بمراجعات فكرية، تبدو على مستوى المقولات مهمة، لكن تبقى الممارسة، ويظل الواقع الفيصل الحاسم.