الدلع!

TT

مضت بضعة أسابيع على الانقلاب على الملك إدريس السنوسي، موحد ليبيا ورجل الاستقلال، قبل أن يظهر معمر القذافي كرجل قوي في مجلس الثورة. ومنذ أن ظهر حتى اليوم، لم تتوقف عبادة الذات وصناعة الشخص. وقد اختار الأخ العقيد أن يكون لبنان من أول البلدان التي يقوم بزيارتها، لمجموعة أسباب، أولها موقع بيروت كمدينة إعلامية، وثانيها كمنبر ثوري مفتوح، وثالثها لسهولة إذلال المضيفين بسلوك الدلع وتحقير الآخرين. أعدت رئاسة الجمهورية استقبالا رسميا طبيعيا كالذي يعد لجميع رؤساء الدول.. الحرس الجمهوري وسيارة الرئاسة الخاصة والفرقة الموسيقية ورجال الدولة، يتقدمهم الرئيس، والوزراء وقادة القوات العسكرية وسواهم، وكان الرئيس شارل حلو، وهو من كبار مثقفي العرب، يعرف سلفا طباع ضيفه ونزقه وعصبيته، فحرص على ألا تكون هناك ثغرة تثير حفيظة الضابط الليبي الشاب أو توتر طباعه. واعتقد أنه حسب حسابا لكل شيء.

كان على خطأ فادح. ترجل القذافي من الطائرة بالبزة العسكرية التي كان لا يزال يرتديها بادئ الأمر. وعلى الرغم من أنه كان لا يزال برتبة ملازم أول، ولم يخض أو يشهد أي معركة في حياته، بما فيها الاستيلاء على إذاعة بنغازي، فقد تدبر بضعة صفوف من الأوسمة ألصقها على صدره. صافح الزعيم مستقبليه في تعال ممجوج. وعندما رافقه الرئيس شارل حلو إلى السيارة توقف بعنف وقال: أين السيارة المكشوفة؟ وأجابه حلو المندهش والمحرج، بأنه ليس لدى الرئاسة سيارات مكشوفة وإلا لكان أحضرها. وقال الزعيم بآدابه التي لم تكن قد شاعت بعد، إنه إما أن يعود إلى ليبيا فورا، وإما أن تحضر له سيارة مكشوفة على الفور.

بدأ البحث في الجمهورية عن سيارة تحمل مواصفات الظهور، بينما جلس الجميع في المطار ينتظرون. وبعد نحو ساعتين تم العثور على سيارة «كاديلاك» في مرأب القصر الجمهوري فغسلت وأحضرت على عجل، ركبها الزعيم الضيف فرحا وراح يحيي الجماهير باسم ثورة الفاتح العظيم. وطوال الرحلة من المطار إلى قصر بعبدا كان شارل حلو يرتجف.. فقد كان لبنان مليئا بأوكار الأجهزة الخارجية وأمنه سريع العطب، ولضيفه من الخصوم أكثر بكثير مما له من الأصدقاء، ثم إن لبنان لم يكن هو الذي وجه الدعوة، بل الزعيم هو الذي طلبها، لأسبابه وليس لأسباب لبنانية.

رمى الأخ العقيد بأصول الضيافة من نافذة القصر الجمهوري وعقد مؤتمرا صحافيا هاجم خلاله العرب والعالم والكواكب. وعقد اجتماعات تمهد لضرب لبنان وتعميم الخراب فيه. وكان «ثواره» يقيمون الحواجز على الطرقات ويسألون اللبنانيين العائدين إلى بيوتهم عن هوياتهم. وها هو يكرر المشهد مع أهله في طرابلس.. حواجز تبحث عن أعدائه في كل مكان!