المرونة التنظيمية.. أمر محتوم على الشركات في مصر

TT

في عام 1989 كانت شركة «سكودا أوتو ووركس» (Skoda Auto Works) في براتيسلافا مؤسسة حكومية غير نشطة، تنتج سيارات تتمتع بسمعة غير جيدة للجودة لم تختلف كثيرا عن سمعة تشيكوسلوفاكيا بشكل عام. ولكن في نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام انطلقت الثورة المخملية في براغ ووصلت إلى براتيسلافا، وتغير كل شيء. فجأة أصبح كل قطاع في الدولة يتمتع بالقدرة، والحاجة الملحة، على التنافس عالميا، ولكن كان عليهم أولا التخلص من آثار الماضي في مصانعهم لتسير بخطوات سريعة. وبعد 20 عاما، نرى أن «سكودا» لم تنج وحسب، بل أصبحت علامة تجارية عالمية. فهي تحتل باستمرار مراكز متقدمة في استطلاعات جي دي باور الاستهلاكية، كما أن هناك قائمة انتظار لشراء سياراتها في المملكة المتحدة. وبالإضافة إلى ذلك فقد تمكنت الشركة من تعزيز قدراتها للعمل في البيئات الصعبة من خلال افتتاح المصانع في كل من سراييفو وولاية مهاراشترا الهندية.

كيف تمكنت «سكودا» من القيام بذلك بكفاءة وفعالية؟ فانهيار النظام لم يمكنها من التنافس على الصعيد العالمي فقط، بل مكن المتنافسين العالميين من الدخول إلى السوق المحلية، وكان من الممكن أن تنهار بسهولة تامة تحت الضغط. ما طورته «سكودا» بسرعة فائقة هو ما ندعوه بالمرونة. فالمرونة هي الدرس الأكثر أهمية فيما نتعلمه من «سكودا» والكثير من الشركات مثلها، وهي ما يمكن أن يقدم للشركات العاملة اليوم في مصر وغيرها من المواقع التي تشهد تغيرات ضخمة لتتمكن من تحسين أعمالها.

تعني المرونة في جوهرها قدرة الشركة على مواكبة الأوضاع في خضم المحن وعدم الاستقرار، وحتى العثور على طرق تمكنها من استخدام الأوضاع لصالحها من أجل تحقيق المزيد من النجاح فيما يتجنب الآخرون العمل. وفي بحثنا وجدنا أن الشركات التي تتمتع بقدر فعلي من المرونة تشترك في خمسة عوامل أساسية مشتركة:

التواصل المستمر والمكثف: في الأوقات التي تشهد تغييرات هائلة، يهتم الجميع بما سيحدث في الشركة؛ فالموظفون والعملاء وأسواق رأس المال يرغبون في التأكد من كون الشركة قادرة على التعامل مع التغيرات التي تواجهها، بينما يوصل الصمت رسالة معاكسة تماما، بغض النظر عن الحقيقة الفعلية.. فالرسائل المعدة بعناية، التي توصل للمعنيين بشكل مستمر، هي أكبر عامل لبناء الثقة لدى جميع المعنيين. وقد وصلت «سكودا» إلى حدود بعيدة للغاية في أوائل الألفية من خلال حملة تسويقية تقوم على فكرة عفوية هي «أن السيارة تبدو رائعة وتتمتع بأداء ممتاز.. لا يمكن أن تكون (سكودا)!».

بناء آلية للتجاوب السريع: يعرف الكثير من التجار أن الأذواق وشعبية المنتجات يمكن أن تتغير بين ليلة وضحاها وبشكل غير متوقع إطلاقا؛ لهذا يجب أن يكونوا قادرين على التجاوب السريع مع الهبوط الحاد في الطلب - أو الارتفاع غير المتوقع - بطرق تتسم بالفعالية. ويجب أن يتم تطبيق التفكير ذاته، على أساس أكثر عمقا، على التجاوب مع الأحداث الجغرافية السياسية كتلك التي تحدث في تونس ومصر. وبدلا من محاولة توقع تلك الأحداث، التي يصعب توقعها حتى على المؤسسات الاستخباراتية، فمن الأفضل للشركات أن يكون لديها فريق مؤهل للتجاوب مع الأزمات إلى جانب العمليات والبروتوكولات التي تضمن اتخاذ القرارات السريعة الحذرة للتجاوب مع الفرص وانتهازها في الوقت الذي تتجنب فيه الكارثة. تأمين طريقة موثوقة للحصول على رأس المال: لا شك في أن الاستعداد والتواصل أمران بالغا الأهمية، لكنهما لن ينجحا إن لم تتمكن الشركة من التجاوب. استقطبت «سكودا» على سبيل المثال 30% من استثماراتها من «فولكس فاغن» خلال عام من الثورة المخملية، وواصلت «فولكس فاغن» تعميق استثماراتها، مما مكن «سكودا» من التوسع السريع وبناء شبكة عالمية متينة. وجود مكملات لجميع الأنظمة الحيوية: عندما انقطعت خدمات الإنترنت في مصر، مع بداية مظاهرات ميدان التحرير، فقد عانت جميع الشركات التي تقوم أعمالها وأجهزتها على الإنترنت في الدولة انقطاعا تاما في بنيتها التحتية إلى حد أن موظفيها لم يتمكنوا من التوجه إلى أعمالهم والتواصل بشكل مباشر. وينطبق الأمر ذاته على أي شركة تمتلك مكونات أساسية في سلسلة التوريد تنطلق من مصر، ولم تكن لديها خطة بديلة. ولا بد لكل خطة مخصصة لمواجهة الأزمات في أي شركة أن تعمل على ضمان استمرار جميع الجوانب الحيوية الضرورية لإنجاز العمليات، سواء أكانت تقنية المعلومات أم المكونات الأساسية لسلسلة التوريد أم إمكانية السفر الجوي أم إجراء المكالمات الهاتفية. فإن الشركات المتمتعة بالمرونة تعمل على بناء ما يسمى في عالم تقنية المعلومات بقدرات «التعافي من الفشل» (failover). نشر المخاطرة على النطاق الجغرافي: بالنظر إلى كون غالبية الأحداث الجيوسياسية (geopolitical) والكوارث الطبيعية تكون مقيدة ضمن الحدود الجغرافية، فإن الشركات التي يمكنها التغلب على هذه المخاطر هي التي لديها خطط مناسبة للتعافي منها والتي تضع في عين الاعتبار الحدود الجغرافية لوجودها. على سبيل المثال، قامت شركة «مايكروسوفت» (Microsoft) بنقل عمليات مراكز اتصالها إلى موقع جغرافي آخر عندما لم يعد بإمكانهم توفير الخدمة من مصر بسبب الثورة التي بدأت في يناير (كانون الثاني). وكذلك في عام 1995، خلال الزلزال الذي ضرب منطقة كوبي في اليابان، فقد أرسلت مجموعة «Daiei» للمتاجر الشاملة طائرات هليكوبتر، وشاحنات، وقوارب نقل، ضمن عملية ضخمة لإعادة تزويد الخدمات والمنتجات، بهدف الحفاظ على سير الأعمال على الرغم من الأضرار التي لحقت بسلسلة التوريد المحلية، وأقام فريق العمل في المركز الرئيسي لشركة «IBM» في كاواساكي مركز استجابة لإخبار وكلائه في منطقة كوبي بإجراءات الطوارئ وليكون بمثابة خط ساخن لجميع عملائه في المنطقة. وقد وجد الكثير من عملائنا فوائد كبيرة من اتخاذ خطط دعم احتياطية للتعافي من الأزمات، ووجدوا أيضا فوائد إضافية لنقل بعض عملياتهم إلى مواقع خارجية (offshoring) كالهند، على سبيل المثال، لا تقتصر على المزايا التقليدية لنقل عملياتهم إلى الخارج، لكنها تعمل تلقائيا على بناء القدرات المكملة في حالات الانقطاع التي تواجهها المكاتب الأخرى.

باختصار، فإن الشركات التي تتمتع بالمرونة، وهي الشركات التي يمكنها النجاة لتصبح جزءا أساسيا من الاقتصاد الجديد في أماكن مثل سلوفاكيا ومصر، تتمكن من تحقيق ذلك بفضل الاستعداد للتصرف بشكل مختلف في أوقات الأزمة؛ فعندما تتحول الجهات، التي يتعين عليها التصرف بمستوى أعلى في الأزمات مثل شبكات «سي إن إن» و«الجزيرة»، إلى نمط الأخبار العاجلة - كما حدث مؤخرا - فإن القرارات التي تحتاج عادة إلى عدة مذكرات وموافقات في اجتماعات الإدارة الأسبوعية يجب أن تتخذ في غضون دقائق. وكما هو الحال في تلك المؤسسات الإخبارية، فإن جميع الشركات يمكن أن تواجه انقطاعا كهذا، ومن يمكنه أن يقول إن الأمر غير محتمل؟ ولهذا عليها التخطيط بعناية الآن لتكون مستعدة للأزمة المقبلة. تعتبر مصر المثال الأحدث على ضرورة تمتع الشركات بالمزيد من المرونة. وفي الوقت الذي ترتفع فيه مخاطر عمليات التشغيل في الدولة، فإنها تتمتع كذلك بإمكانات هائلة كسوق أساسية في منطقة الشرق الأوسط. وستتمتع تلك الشركات، التي تضع في اعتبارها وقوع أحداث مثل الثورة في مصر، بالقدرة الأفضل على تحمل تكلفة المرونة بدلا من تكلفة المفاجأة.

وهناك مثل قديم يعتبر الحظ بأنه التهيؤ لاقتناص الفرصة عندما تحين. لكن ذلك ليس حظا برأينا، بل هو المرونة.

* نائب الرئيس في شركة «بي آر تي إم» (PRTM) للاستشارات الإدارية