هزات من ليبيا تهدد باضطراب في عالم النفط

TT

هذه ليست صدمة نفطية، حتى الآن على أي حال. ولكن الأحداث التي تتكشف داخل العالم العربي تذكر بأن التجارة في النفط، الذي يمثل الأم بالنسبة لكل السلع، في قلب اللعبة السياسية. ومنذ غزو العراق للكويت عام 1990، بدت الجوانب السياسية للمادة الخام تلوح في الأفق بدرجة كبيرة. وكما هي الحال مع الكثير من الأشياء داخل العالم العربي، تبدو هذه السوق مثل جيب يحتوي على الكثير من الألعاب النارية، وينتظر فقط عود ثقاب.

وبينما أحكم المتمردون إحاطتهم بطرابلس يوم الأحد الماضي، فإنه لا تزال إمداداتها النفطية المهمة محدودة، بينما تراجع الإنتاج في معظم حقول النفط الليبية بدرجة كبيرة جدا.

وترك العمال في الكثير من الموانئ ومعامل التكرير عملهم بسبب الخوف الشديد من الذهاب إلى أماكن العمل. وبعد رحيل معظم موظفي شركات النفط الأجنبية عن ليبيا، بدأ رجال مسلحون في نهب المعدات المتروكة خلفهم، ويبدو أنه ستمر أسابيع قبل عودة الإنتاج إلى المعدلات المعتادة، على أحسن تقدير.

ويقع نحو 80 في المائة من إنتاج النفط داخل الدولة في مناطق يسيطر عليها متمردون، بيد أنه لا توجد وسيلة للتثبت من الكمية التي يسيطر عليها قادة التمرد بصورة مباشرة.

ومن المسلم به أن العالم يمكن أن يتكيف مع أي اختلال يشوب صادرات ليبيا النفطية. ولكن ما دفع بأسعار النفط لأن تصل إلى 100 دولار للبرميل من جديد هو احتمالية انتشار الانتفاضات التي أطاحت بحكام مستبدين داخل مصر وتونس، وانتقالها إلى دول أخرى أعضاء في منظمة أوبك داخل منطقة الشرق الأوسط.

وفي الوقت الحالي، تستطيع الدول ذات الوزن الثقيل مثل السعودية تعويض الفارق في الإنتاج، كما قام مستهلكون كبار، مثل الولايات المتحدة، بتخزين ملايين البراميل من النفط، تحسبا لهذا النوع من الظروف الطارئة.

ولكن لا يشعر الكثير من خبراء النفط بالدهشة لأن الاضطرابات تسببت في اضطراب الأسواق. فالعالم لديه عطش تجاه النفط، كما أن الإمداد والطلب يخضعان لتوازن دقيق. ولا توجد سوى مساحة ضئيلة للمزيد من الاضطرابات في الإمداد. وفي الواقع، فإن القدرة الإضافية، وبالأساس تلك الكمية من النفط الإضافي التي تستطيع الدول الأعضاء في منظمة أوبك إنتاجها إذا ما اقتضت الضرورة، تبلغ حاليا 5 ملايين برميل يوميا. ويبلغ ذلك نحو 6 في المائة من النفط التي يستهلكها العالم كل يوم. وقد ارتفعت هذه الكمية عما كانت عليه عام 2008، حين كانت تبلغ 2 في المائة تقريبا من معدل الاستهلاك اليومي، ولكنها لا تزال قليلة بصورة تبعث على القلق. ولا يضع ذلك في الاعتبار ضياع نحو مليون برميل من النفط يوميا يتم تصديرها من ليبيا.

ويقول ديفيد ناب، وهو اقتصادي بارز في دار النشر المتخصصة «إنيرجي إنتليجينس»: «توجد احتمالية للتعرض لظرف أصعب. ولكن في الوقت الحالي توجد براميل كافية، فهناك المخزون التجاري والقدرة الإضافية لمنظمة أوبك واحتياطات استراتيجية لدى دول صناعية تساعد على التعامل مع انقطاع الوارد من ليبيا على المدى المتوسط».

والسؤال الذي يدور حاليا في أذهان الجميع هو كيف سيكون الوضع إذا ما تجاوزت الأحداث حدود ليبيا؟ ويقول كوستانزا جاكوزي، وهو محلل طاقة في «باركليز كابيتال» بنيويورك، إن المزيد من الاضطرابات – أو ببساطة الخوف من المزيد من الاضطرابات – يمكن أن ترفع أسعار النفط بدرجة أكبر. وأشار إلى أن «درجة المخاطرة الجغرافية السياسية في الوقت الحالي كبيرة».

ويوضح جان ستوارت، وهو اقتصادي متخصص في الطاقة لدى «ماكواري للأوراق المالية»، قائلا: «يعيد ذلك البعد السياسي لاقتصادات أسعار النفط، فعلى مدار وقت طويل من الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، كان السعوديون ينحنون للخلف لضمان أن السياسة لا دخل لها في النقاشات بشأن إمدادات النفط».

وقد كان سعر النفط يرتفع بصورة مضطردة حتى قبل انتشار موجة الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية في الكثير من المناطق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان الاقتصاد العالمي الذي يشهد تعافيا قد أقنع تجارا بأن الطلب على النفط سيرتفع بنحو 2 في المائة خلال 2011. وكان بعض المتخصصين في «وول ستريت» وخبراء القطاع يتوقعون عودة تدريجية إلى 120 دولارا أو حتى 150 دولارا. وكان التفكير ينصب على أن المستثمرين سيضخون أموالا في أسواق السلع.

وارتفعت تعاقدات النفط في نيويورك بقرابة 12 دولارا الأسبوع الماضي، لتستقر عند 97.88 دولار للبرميل، ويعد ذلك أعلى سعر منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2008، وفي لندن أغلق مؤشر «برنت» الخام عند 115 دولارا للبرميل.

والآن يخشى اقتصاديون من أن أسعار الطاقة المرتفعة والمتنامية يمكن أن تضر الاقتصاد وقت بدئه التعافي. وبلغت أسعار البنزين في المتوسط 3.29 دولار للغالون يوم الجمعة في مقابل 3.11 دولار قبل شهر. وهناك قاعدة تقول إن الزيادة بمقدار سنت واحد تأخذ أكثر من مليار دولار من جيوب المستهلكين كل عام.

وإذا استمرت الأسعار في الارتفاع، فمن المحتمل أن يقوم المستهلكون بتقليل نفقاتهم. وإذا بقيت الأسعار مرتفعة لوقت طويل، ربما يكون أثر ذلك كبيرا، إذ إن كل صدمة نفطية على مدار الأربعين عاما الماضية ساعدت على دفع الاقتصاد العالمي إلى حالة من الركود. ويقول ناريمان بيهرافيش، كبير الاقتصاديين في «إتش آي إس غلوبال إنسيتس»: إن كل زيادة بمقدار 10 دولارات في سعر برميل النفط تقلل النمو الاقتصادي بمقدار 0.2 نقطة مئوية بعد عام، ونقطة مئوية كاملة على مدار عامين.

وبصورة ما، كان من المؤكد أنه يحدث شيء من هذا القبيل. هذا ليس حادث «بجعة سوداء» - ظهور مفاجئ غير متوقع – ولكنه حادث «بجعة بيضاء»، بحسب ما يقوله ميشيل ليفي، الزميل البارز المسؤول عن قضايا الطاقة والبيئة في مجلس العلاقات الخارجية. وأضاف قائلا: «لا يمكن أن تتنبأ تحديدا بنوعية الاضطراب الذي سيحدث، ولكن يمكن التأكد من أنه سيحدث بعض الاضطراب». ومن أجل تهدئة الأسواق، بدأت السعودية زيادة إنتاجها من الخام ليصل إلى أكثر من 9 ملايين برميل يوميا، أي بزيادة قرابة 700 ألف برميل عن نهاية عام 2010، وذلك وفقا لما أوردته «إنيرجي إنتليجينس». ويسأل مسؤولون سعوديون من معامل تكرير أوروبية، وهم أكثر من تضرروا من العجز في الصادرات الليبية، عن كمية الخام ونوعية ما يحتاجون لشحنه سريعا. وقد ساعدت وكالة الطاقة الدولية، وهي منظمة تضم الدول المستهلكة، على تقليل التوترات في الأسواق عندما قالت يوم الخميس إن العالم لديه «وسائل متاحة لتوصيل ما يكفي من النفط إلى السوق»، بما في ذلك مخزون الطوارئ المتاح الموجود لدى دول مستهلكة.

ويعتمد الكثير على ما سيحدث لاحقا داخل منطقة الشرق الأوسط، فالارتفاعات في الأسعار التي صاحبت حربي الخليج لم يكن لها تأثير كبير، لأنها لم تستمر لوقت طويل بالقدر الكافي. ولكن سبق زيادات كثيرة في أسعار النفط تباطؤ اقتصادي.

وكانت الصدمة الأكبر في أعقاب حظر «أوبك» عام 1973 - 1974، الذي رفع أسعار النفط بمقدار أربعة أضعاف وأدى إلى حدوث ركود تضخمي، وهو فترة سادها نمو بطيء ومعدلات بطالة مرتفعة وتضخم.

وتسببت الثورة الإيرانية عام 1979 في عجز آخر، ومرة أخرى أجبر سائقو السيارات الأميركيين على الانتظار في طوابير طويلة من أجل الحصول على البنزين. وارتفعت أسعار النفط، ولكنها لم تبق مرتفعة لوقت طويل، حيث قامت المكسيك ونيجيريا وفنزويلا بتوسيع الإنتاج وخسرت منظمة أوبك وحدتها. وظلت أسعار النفط منخفضة لأعوام، وكان الاقتصاد خلال النصف الأخير من الثمانينات ومعظم التسعينات قويا في الأغلب. وإذا ساعدت الاضطرابات الحالية على رفع سعر البرميل بمقدار 40 - 50 دولارا، ليعود إلى مستواه قبل ثلاثة أعوام، سيكون لذلك ضررا بالغا. ويقول بيهرافيش: «إذا ارتفعت أسعار البنزين أكثر من 4 دولارات للغالون، ربما يكون هناك أثر نفسي كبير، ولكن يتعين أن يستمر».

* خدمة «نيويورك تايمز»