القذافي: تأملات في الشخصية والتفكير والممارسة

TT

كانت أول صورة لمعمر القذافي، في ذاكرة العالم، هي لذلك العناق الحار مع محمد حسنين هيكل، على رمال الصحراء في بنغازي. وعاد الصحافي الكبير ليبلغ رئيسه جمال عبد الناصر أن الأخ معمر الملازم الأول الذي قاد الانقلاب في ليبيا يطالب بوحدة فورية مع مصر.

كان الطلب ينم عن سذاجة سياسية متحمسة. لكنه كان محرجا للزعيم المصري. فقد سبق أن أزاح من باله وخططه مشاريع الوحدة، منذ أن قوّض ضباط دمشق (قلب العروبة النابض) وحدته مع سورية (1961). لم يشأ عبد الناصر إخماد شعلة العاطفة القومية المتأججة في صدر قائد انقلاب لم يتجاوز السابعة والعشرين من العمر. وعندما التقى به، ربت على كتفه قائلا له: «أخ معمر. أنت تذكرني بشبابي».

كان موت عبد الناصر المبكر صدمة كبيرة للقذافي. ثم كان صدامه مع السادات، بعد مشروع وحدة فاشلة معه، فرصة لإطلاق شحنة طموح نرجسية كان يحتبسها في صدره، أدبا وتهيبا للزعيم القومي الكبير الذي كان يعتبره أبا روحيا وآيديولوجيا له.

لم يعد هناك حائل أمام الفتى الأغر. الثقة الزائدة بالذات دفعته إلى تقديم مشروع شخصي للحكم. وللإدارة. بل ولفلسفة السياسة. شيء لم يقدم عليه زعماء جاءوا معه إلى منصة الحكم في بلادهم، في مرحلة زمنية واحدة (1968 / 1970). واكتفوا بالسلطة. وصرفوا الاهتمام عن التنظير في السياسة.

أود هنا أن أعتبر تلك الطفرة السلطوية المشتركة، بمثابة الانتفاضة الثالثة والأخيرة ذات الطابع القومي التي انتابت الأجيال الشبابية العربية في القرن العشرين. قادت أولادها، بنجاح، النضال التحرري ضد الاستعمار في المشرق العربي. بعد هزيمتها في فلسطين، قلبتها الانتفاضة الشبابية الثانية التي ما لبثت أن انطفأت بسقوط الوحدة المصرية / السورية، وهزيمة المشروع القومي في حرب النكسة (1967).

كانت الانتفاضة الثالثة بمثابة خفقة الروح الأخيرة في الجسد القومي المثخن بالجروح. حمل زعماؤها الأربعة (القذافي. الأسد. صدام. نميري) شعارات ناصر القومية والاشتراكية داخل أقطارهم. وأخفقوا في ممارستها وتطبيقها في الوطن الكبير.

لم يتمكن الإسلام السياسي من تشكيل انتفاضة حقيقية بديلة، بسبب دموية «جهاديته»، وتخلف المرجعية الإخوانية عن التكيف مع العصر، وعن تقديم زعامة ملهمة. وكان على العرب الدخول في سبات أهل الكهف أربعين سنة، في انتظار أن يفجر جيل شبابي جديد الانتفاضة الراهنة التي ما زالت مجهولة الاتجاه والمصير.

أعود إلى الأخ معمر الذي أصبح عقيدا، لأقول إن الثقافة المبتسرة خطر كبير على السياسي والمثقف. القراءات المبعثرة والمتقطعة في الفكر السياسي، من دون برنامج علمي متكامل، حالت دون تشكيل موقف فكري، لدى القذافي، يقوم على رؤية إنسانية شاملة وواعية.

وهكذا، جاء «الكتاب الأخضر» الذي ضمنه نظريته الثالثة (البديلة للرأسمالية والماركسية)، بمثابة «خربشة» على هامش الفلسفة السياسية، وقوبلت بفتور إلى حد السخرية عربيا وعالميا، خصوصا في محافل المثقفين.

في التطبيق، كانت الممارسة مأسوية. ففي الداخل، تم هدم كيان الدولة. وتفكيك مؤسساتها المدنية والعسكرية التي كانت أصلا بدائية. أقيمت بنى جديدة هشة ومعقدة. وتحمل تسميات بديلة مربكة. وأسندت حمايتها إلى لجان شعبية أو «ثورية»، لم تكن تتمتع بأية خبرة أو تجربة.

كانت السبعينات أزهى العصور القذافية المتقلبة: قدرة فذة على المغامرة غير المحسوبة. سخاء في تمويلها من بئر جنت أسعارها النفطية. ثم طاقة عنيدة في المكابرة على الفشل هنا. وتغطيته بفشل آخر هناك، من دون أن يتعرض الأخ القائد لأية محاسبة. أو مساءلة. فقد باتت ليبيا مفككة الأوصال.

الأمثلة كثيرة. القذافي لم يشعل الحرب اللبنانية. لكن تسبب في إطالتها. إنما أنفق مالا بلا حساب. نزل إلى السوق شاريا، بعدما فرغت جعبة صدام قبله. اشترى صحافيين. ساسة. أدباء ومثقفين. افتتح دكاكين لميليشيات. أصدر واستأجر صحفا. كل ذلك ضاع، بعدما تم تغييب موسى الصدر مرجع الطائفة الشيعية خلال زيارة لليبيا (1978)، الأمر الذي أفقد النظام الليبي مصداقيته العربية والدولية.

في قاموس الحرب الباردة، كان تغييب الديني (الصدر) ردا على اغتيال اليساري (كمال جنبلاط). مع ذلك أعتقد أن المؤامرة على الصدر كانت أكبر من ليبيا. ومن القذافي. كانت من صنع الأممية الشيوعية، بمشاركة فلسطينية. وكان الحلم انتزاع لبنان من المعسكر الغربي، وإلحاقه بالمعسكر الشرقي.

بقية مسيرة القذافي على المسرح الدولي كانت امتدادا محاكيا للتورط في لبنان، وللصراع الدولي فيه وعليه. بدعم، من أجهزة المعسكر الشرقي، طاردت فرق الاغتيال الليبية رموز المعارضة اللاجئة إلى أوروبا. وكان بعضها يعمل تحت مظلة الحماية الغربية.

في الثمانينات، وضعت المطاردة اللاإنسانية القذافي في مواجهة حادة، غير ضرورية، مع هيمنة «الإمبريالية» الأميركية الجوية والبرية على العالم. كلا الجانبين سجل نقاطا في مرمى الآخر. لكن اختفاء المعسكر الشرقي، أودع الأخ معمر، لأول مرة، في دائرة الحساب.

هنا تتجلى براعة القذافي في التخلص من الآيديولوجيا. أوكلت ليبيا إلى المستشار القانوني السابق للخارجية الأميركية، المحامي اليهودي إبراهام صوفاير مهمة عقد الصفقة! ثم إرضاء ذوي ضحايا طائرة لوكيربي، وبعضهم من يهود نيويورك، بأكثر من مليار دولار. في مقابل تبرئة القذافي، وإدانة ضابطين صغيرين في جهازه الأمني. يا للعدالة الدولية!

براغماتية القذافي وصلت إلى درجة الاعتبار، بما حدث لصدام. بعد خلع الرداء الخارجي الزاهي للآيديولوجيا، جاء وقت التخلص من الملابس الداخلية النووية والكيماوية. لم يكن الـ«ستريبتيز» كافيا. ظن أن التنازلات الخارجية كفيلة بالسماح له في الاستمرار، باحتكار المسرح الداخلي. كان المسرح قد فرغ من النظارة. كان لا بد من ملء الفراغ الموحش في السلطة، بتسليط أبنائه. فبات كل منهم مؤسسة.

«أنا ضد الاستقرار المريض في الوطن العربي، وعندي التفجيرات أفضل، لتغيير الوضع الراكد». انتفاضة ليبيا اليوم تعمل بنصيحة القذافي. تريد تغيير الوضع الراكد. في مواجهة أرادها الأخ معمر دموية. تلاشت المؤسسة الأمنية المخيفة. ابتلعت العشيرة الجيش المحترف، منذ زمن طويل. كان بالإمكان أن يقف الجيش فاصلا. ووسيطا. وحكما بين النظام والشباب. كما فعل في مصر وتونس.

أظن أني كنت مؤدبا. تحدثت عن زعيم عربي ما زال في قفص السلطة، محاصرا بقوى مجهولة، في هويتها. توجهاتها. تياراتها. وفي انتمائها. سواء بقي القذافي. أو لم يبق. فماذا يبقى من الأخ معمر، في ذاكرة العرب؟

لا شيء. سوى غرابة الأطوار. أعرابي حاول أن يحفر اسمه على الرمال. فغير مواضع أضخم الكثبان. حالف القبيلة. ضد المدينة. ظل أربعين سنة متقشفا تحت خيمة. إذا خرج منها، فبملابس زاهية. إذا قال، مسح العرب الدموع من مآقيهم. ليضحكوا ملء أشداقهم.

يمسح الليبيون دموعهم. يرفعون علم الصوفية السنوسية. كانت حركة دينية تنويرية في مقياس عصرها. ناضلت ضد استعمارين عاتيين. استقلت. فوحدت برقة. طرابلس. فزان. جمعت البحر والصحراء في ليبيا معاصرة. سهت الملكية السنوسية عن أمنها. احتمت بأمن غيرها. فأغرت الطامعين بها. خافت من جيرانها. فتمرد شبابها على شيوخها. ذهب نظام. ويوشك نظام على الرحيل. كلاهما حفر اسمه على الرمال. وبقيت الرمال رمالا.